كانت تلك “الرّوجعة” المنفردة الحزينة،على هذه الصفحة،بعيد تلك المهاتفات التي تتالت قادمة،من الوطن ومن خارجه،عشية الأحد الحزين الأخير،من معارف الداخل و زملاء،في دول أخرى ،كلّهم يسألونني،أنا البعيد،هنا :”هل سمعت الخبر الفظيع؟ هل علمت بالنبإ العظيم والحدث الأكبر المهول وفاجعة الفواجع ؟ أ و صلت،إلى سمعك ، الطامة الكبرى والمصاب الجلل؟!سيدي أحمد ولد اجّ ّقضى..غادرنا ولن يعود؟! هو المنون،إذن والأجل المحتوم ؟!كيف حدث هذا وأين ومتى وقع،بالضبط؟!
“-منذ عدة دقائق وفي ألاك “،”-حادث سير”؟! “لا لا،بل وعكة صحية طارئة لم تمهله،وهو،في الطريق،إلى نواكشوط،بهدف العلاج “كان ساجدا راكعا،قبيل ذلك، بوقت قليل،في مكطع الحجار …
كل هذا الأثير المأساوي،لا تنقطع مكالمة إلا تلتها أخرى،وأنا،أمام هذا الكابوس المخيف، أزداد ذهولا،على ذهول وفقدانا،بالكامل،للبوصلة،بل حتى،لمجرد التوازن..ننتابني دوخة،إثر أخرى ودوران،في دوران،لي ولكل ما حولي،ولا يصدر،مني،غير بكاء ونواح مستمر ونحيب،مثل الولد الصغير الذي انتزع،منه،للتو،الأولاد الأشرار الظلمة الأكبر منه والأقوى ما في يده،بعد أن أشبعوه ضربا مبرّحا وأهانوه أشنع أصناف الإهانة وأسمعوه حقير السباب…
ولم يبخل،أغلب المتصلين والمتصلات،طبعا،حيال وضعي المفاجئ هذا،بشيء غير قليل من التوجيه والوعظ والإرشاد والتذكير،بما على المؤمن،من واجب قبول قضاء الله والإذعان،لأمره ومشيئته اللذين لا معقب،لهما. هذا يقرأ،لي آيات الصبر،في القرآن العظيم وما وعد الله،به،الصابرين،من جميل مجازاته؛ وذاك يروي قصة تلك الأعرابية التي كانت تبكي،بحرقة، فلذة كبدها،فدعاها صلى الله عليه وسلم،للصبر،لتردّ، وهي لاتعرفه:”إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي”،ثم ذهبت تلقاه،بعد أن عرفته،ليرد،عليها:”إنما الصبر،عند الصدمة الأولى “…
ولكنني،بقيث،لساعات،كما لم يحدث،لي،من قبل،عند فقد أقرب المقرّبين وأغلى الذاهبين الأعزاء،إلى الشاطئ الآخر المسلوك طريقه لا يفرغ،لحظة،من أفواج السالكين ،متمنّعا،عن كل هذا الخير الساعي،لانتشالي،من هذا الضياع أو “الخسران “،بلفظ أقرب لتشخيص الحالة،كما يكرره “المصبّرون ” .
وضيّعت الصدمة الأولى؛بل خلتني- ولله ولرسوله وللصحابة الأخيار، المثل الأعلى-في حال شبيه ،بما وقع للمسلمين،يوم نام الهدى الرسول الخاتم، فكادت القلوب أن تضيع،لولا أن صدع ثاني اثنين الصدّيق،بقولته الشهيرة “من كان يعبد محمدا،فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت،قبل أن يقرأ آية ((وما محمد إلا رسول…إلى آخر الآية ))…ثمّ بدا ،لي،وقد وصلت حالتي النفسية والبدنية،إلى كل الخطوط الحمراء،إذ فهمت أنني قاب قوسين،من الجنون والسقوط،فبادرت،إلى دعوة عزيز،لي،جاءني،في بيت موريتانيا،ليسندني ،فكان،على يده،الخلاص،إذ عاد،إلي، بفضل الله،عقلي وديني. وكانت ” إنا لله وإنا إليه راجعون”تلك،هي بداية عودة الروح…
رتبت اموري،على عجل ،وها أنا،في الطريق، إلى الرشيد المفجوع،أستذكر شيئا،ولويسيرا ،من رواية هذا البطل غير الشرقية،على روعة فصولها الأخرى ،ما دامت هي ذي خاتمتهاالمأساوية و الدرامية.
لقد كان البطل من هو،فينا،السيد ابن السيد ابن السيد…إلى “ماء نوح ،”كما نعبر،في ثقافتنا البيظانية، عن اللاتناهي وكامل الوصول المجزي و بالغ العراقة غير المنقوصة…
كان،من أعلانا،قدرا ومن أطول نخيلنا الباسق وأرفعه،هاما.
إنه أعلى جبالنا تدكدك،فعلا،دون سابق إنذار،مخلّفا زلزالا ،لآخر قوة في حساب ريختير،طال كل سوحنا الأهلية؛بل وصلت ارتجاجاته،إلى كامل قشرة الوطن وتجاوزت ارتداداته ذلك،لتشمل عموم “تراب البيظان “،في مشارق الأرض ومغاربها.
هكذا فرض ” إيفرستنا”مكانه، بنفسه،بيده،لا بيد غيره،على عظمة ذلك الغير،كما أسلفنا ،حين قرر،يوم فجع،في أبيه واختار أخوه،بعد فترة قصيرة،من خلافته،كما خلّد تلك الإليا ذة المحلية، هوميروس المنطقة:محمد السالك ولد فزّاز،في رائعة البتيت البكائية الخالدة… قرر،بشجاعة لا تضاهى،أن يضحي،به،”هو “،ليكون،-وياللتضحية النادرة- ضمير جمع أهله الأقربين،أولا ثم الأقرب،لهم،تباعا، في برّ،للجذور،في مركزنا وفي تجكجة والولاية،عامة والوطن وكل دوائره وامتدادته، جعله يستحق،بجدارة،تمثلي،له، الذي استكبروه،يومها،عليّ،ب”واحد”بيت ، أبي نواس الجميل السائر،في مدح عقيل بن ربيع،باجتماع العالم،فيه،كما لم يحدث،لأي من أنداده،في كل الحيّزات التي تبكيه،جميعها،اليوم،كما لم يُبك غيره…!!
وإذا كان ضحّى،بزهرة شبابه،لكل أهله وأوصل عطاءه السخي وخيره الجزيل،لكل واحد ولكل واحدة،في هذا الفضاء الواسع،فقد كانت النتيجة أن بادله الجميع حبا،بحب وعطاء، بعطاء،فكان،له ولأخيه،الريّادة والاعتراف،في محيطهم هذا،عمادة بلدية وتمثيلا برلمانيا وحضورا،مع الكبار وأهل الحل والعقد،محليا ومقاطعيا وجهويا ووطنيا…
وكانت الضربة القاضية،”ضربة السيد” ،لابن اجّ ولد محمد محمود ولد امينوه،في الرشيد وابن الجود ولد اخليفة،في تجكجة،يوم أقام وصديقه،ابن الولاية الحاذق المحبوب هو الآخر،والإطار والوجيه المخضرم: الداه ولد عبد الجليل حلف الريف،متجاوزين ،بإبداع منقطع النظير القبلية،بالقبيلة والصراع،بين المركز والأطراف،بإ عمال الحياد الإيجابي تجاه فرقاء المدينة ومساعدين،إياهم،في الوقت نفسه،على تحقيق الوفاق والوئام والتوافق..
ولكن ما اتسم،به،الفقيد،من صدق وأمانة وإنصاف وتواضع ،إلى غير ذلك،من السجايا الحميدة التي يشهد،بها القاصي والداني ويعترف،بها،العدو،قبل الصديق،يبقى هو الأكثر حسما،في موقع القبول والتقديم الذي مافتئ يحتله،بكل استحقاق،طيلة حياته،وها هو ‘يوجب”،له،اليوم،كما،في الحديث الصحيح ،وقد رحل هذا الرحيل المفاجئ،ما وعد الله،به المتقين المشهود،لهم،بالخير.
ولو سألت أي شركائه،وأنا منهم،عن أهم شيء جذبه إليه وكسب،به،وده وحبه وثقته،لأجابك،دون تردد:”إنه ذلك الإخلاص،عن ظهر غيب “.
وتلك،لعمري،من أبرز أمارات الإحسان!!
والأهم،من كل ما سبق هو هذا الاجماع الشعبي،على أن “الابيظ “، شأنه شأن “الابيظ” الآخر: أبيه،كما يسمّيهما الناس أولاء،هما وليان،من أولياء الله أحبّهم تعالى فحبّبهما،لعباده،كما في حديث البخاري:((…فإذا أحببته ،كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطيّه ولئن استعاذني لأعيذه.)).
فلترحمه،اللهم ولتعف،عنه ولتخلده،في الفردوس الأعلى من الجنة،مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وإذ أعزي، فيه،نفسي وجميعنا،في الفضاءات المعدودة،فإنني اخصّ بنيه وبناته،عليهم؛أمان الله وحفظه،كلا، منهم ومنهن،باسمه ووسمه. خاصا أحمد وشادا،على يديه،لنواصل المشوار ونكمل المهمة التي بدأها الوالد الفقيد ، دون أن أنسى باقي أفراد أسرة أهل اجّ وجميع أهل الرشيد و تجكجة وتكانت،على وجه العموم وكافة محبي الفقيد،في كل مكان،من الوطن وخارجه…
ولله ما أخذ وله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار. وإنا لله وإنا إليه راجعون.