الروائية الفرنسية ليليا حسين تبني جسرا سرديا بين فرنسا والجزائر.
الهجرة قضية كتبها عدد هام من الروائيين المغاربيين بأشكال مختلفة. وأبدعوا في تصوير عوالمها وأسرارها ومعاناتها ليزيحوا عنها الأقنعة ويقدموا لقرائهم الحقائق عارية حول ما يواجهه المهاجرون وأبناؤهم. في نفس التمشي، تكتب الروائية الفرنسية – الجزائرية ليليا حسين روايتها “مرارة الهجرة”، ولكن من زاوية جديدة.
“مرارة الهجرة” رواية الواقعية والحنين على حد سواء لحيوات ثلاثة أجيال لعائلة جزائرية هاجرت لفرنسا في العام 1959، حيث تكشف الروائية الفرنسية من أصول جزائرية ليليا حسين عبر فصول قصيرة وقاسية حالة المهاجرين الجزائريين والعنصرية التي واجهوها، وصعوبة أن يكون الإنسان مهاجرا أجنبيا خارج بلده، وأيضا أن يصبح أجنبيا في بلده الأصلي، ومحنة وحسرة الأطفال ذوي الخلفية المهاجرة، وحالة المرأة الصعبة للغاية في ظل ثقل التقاليد التي تثقل كاهلها.
تحكي الرواية، التي ترجمها الأكاديمي صابر رمضان وصدرت عن دار العربي، عن أم وأب في بلد ليس بلدهما، عن أطفال يكبرون، وفتيات يصبحن نساء ويعشن تحت وطأة تقاليد الأجداد، ثم هولاء الآخرون الذين يولدون في أرض المنفى هذه ولا يعرفون عن أصولهم إلا ما يقال لهم.
أجيال المهاجرين
بوكس
تضع رواية “مرارة الهجرة” القارئ أمام ما يعنيه ضياع أسرة، وذلك من خلال أسرة “نجا وسعيد” التي جاءت للعيش في فرنسا، بعد أن جاء الزوج للعمل بجد لمحاولة إعطاء حياة كريمة لزوجته وضمان مستقبل لأطفاله. وبصفة المؤلفة من الجيل الثاني من المهاجرين الجزائريين، تتبع مسألة اندماج السكان الجزائريين في المجتمع الفرنسي في الفترة ما بين بداية الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات.
تعود إلى العصر الذهبي لمجمعات الإسكان الاجتماعي التي يتم فيها التحكم في الإيجار إلى التخلي التدريجي عنه، إنها فترة محورية تصورها الكاتبة بدقة، حيث كانت الأسر من أصل جزائري موجودة في هذه المجمعات التي بنيت في أوائل سبعينيات القرن العشرين. هذه الضاحية التي كان كل شيء يسير فيها على ما يرام في البداية، والتي تتحول بمرور الوقت إلى بؤر فساد على خلفية البطالة وتخلي الدولة عن رعاية مساكن ذوي الدخل المنخفض.
هذه الرواية هي الثانية لليليا حسين، وهي رواية يمكن أن تقع بين الشهادة والخيال، حيث تدور أحداثها في سياق تاريخي يمتد ما بين عام 1959 وعام 1997.. إنه زمن قصير نسبيا ولكنه كثيف وغني جدا، ويقدم قصة مكثفة ومثيرة. تنطلق الرواية من منطقة أوراس بالجزائر، حيث تربي “نجا” بناتها الثلاث “مريم وسونيا ونور” بمفردها منذ أن سافر زوجها “سعيد” للعمل في مصنع “رينو” للسيارات في ضواحي فرنسا. تعيش في خوف من الخسارة، فقد فقدت للتو طفلا صغيرا عمره ثلاث سنوات ومن جانب آخر تخشى ألا يعود زوجها. لكن بعد بضع سنوات، يصبح وضع العائلة أكثر استقرارًا، حيث يتمكن “سعيد” من إحضار عائلته إلى باريس.
كان سعيد يحصل على راتب متواضع، فيما شقيقه قادر، المتزوج من امرأة فرنسية، يحصل على راتب متميز ويعيش في حالة أفضل في فيلا بحديقة وليس لديه أطفال، أما سعيد فيعيش مع زوجته وأطفاله في شقة متهالكة في وضع بائس.
تصبح نجا حاملا بعد وقت قصير من وصولها إلى فرنسا، وسرعان ما تكتشف أنها حامل بتوأم، الأمر الذي يطرح السؤال حول وجود فمين إضافيين يجب إطعامهما قريبًا جدًا، بينما يكافح سعيد لتغطية نفقاته ونجا والبنات الثلاث. يقترح سعيد أن يسلم أحد التوأمين “دانيل” و”أمير”، لأخيه عند ولادته، دون أن يكشف أي شيء لأحد، ولا حتى للتوأم فيما بعد. تقول نجا الخاضعة لنفسها أن أحد أبنائها سيكون لديه على الأقل ضمان الرغبة. حتى لو كان ذلك يعني أن قلبها سيتمزق من احتمال الانفصال عنه.
نساء متحديات
بوكس
هل سيشعر التوأم بهذا النقص في الآخر؟ هل سيشعران أن هناك جزءًا من كل منهما في مكان آخر؟ هل من الأفضل لهما ألا يعلما أبدًا بهذه الكذبة التي تحيط بحياتهما؟ تتبع الروائية “دانيل وأمير” منذ الطفولة وحتى نهاية المراهقة، حيث يشكلان القاسم المشترك في الرواية. يعيش كل منهما في عائلتين مختلفتين دون معرفة أنهما توأمان، لكن سيظل كل منهما مرتبطا ومتحدا مع الآخر دائما بغض النظر عن الموقف، كل منهما يفهم ويشعر بأفراح ومعاناة الآخر بشكل حدسي، وذلك على الرغم من أن لكل منهما مساره الاجتماعي المختلف.
تغرق المرارة الأسر المهاجرة، التي غالبا ما تكون كبيرة، والتي تكافح من أجل تغطية نفقاتها، ممزقة بين الإغراءات الغربية، المخصصة للرجال، والتقاليد الشرقية التي تسجن النساء، اللائي يتزوجن أحيانا في سن الخامسة عشرة، دون علمهن وضد إرادتهن الحرة. ومما يعزز المرارة، العقبات، أو حالات رفض الاندماج التي تؤدي إلى سحب الهوية، فالمناطق السكنية التي بنيت لذوي الدخل المنخفض يتم عزلها تدريجيا لتصبح مأوى لتجار المخدرات مع تصاعد معدلات البطالة وانتشار الفساد، الأمر الذي يوقظ الحنين إلى الوطن الأصلي. لكن الوطن أيضا ينظر إليهم كأجانب.
“نجا” شخصية مركزية في الرواية بمجرد وصولها إلى المجمع السكني العام في ضواحي باريس، تبدأ أحلامها في الانهيار تدريجيا، حيث تعيش داخل جدران شقتها الأربعة زوجة مثالية، تعيش من أجل أطفالها، من أجل الآخرين، تنسى نفسها، لا توفر وقتا لتحقيق أي من أحلامها، لا تأخذ استراحة. يقتصر أفقها على جيرانها وخاصة زوجة شقيق زوجها، حواء، المرأة الفرنسية المتحررة.
فضلا عن مواجهة زوج أصبح مدمنا على الكحول وعنيفا، وتوأمين “دانيل وأمير” تفصل بينهما مكرهة، وحياة ابنتها “مريم” التي أجبرت على الزواج من شاب في الجزائر وابنتها نورا المتمردة.
إن الشخصيات النسائية كلها تقريبا، حتى لو كان لـ“نجا” دور كبير لافت للنظر ولامع، يتم تصوير مشاعرهن بحساسية ودقة كبيرة. فهن يتمتعن بالقوة والصبر أو القدرة على التمرد، ويشكلن لوحة غنية وملونة مثيرة للإعجاب، وذلك بفضل جمالية سرد المؤلفة لملامح وأفكار وتفاصيل حياتهن.
يجتمعن مرة واحدة في الأسبوع للهروب من سلطة أزواجهن المنهكين في العمل، والذين أصبحوا أحيانا عنيفين. ومن جانب آخر نرى الفتيات الصغيرات اللواتي يكافحن من أجل الخروج من القيود الثقافية والاجتماعية التي تفرضها البيئة الأسرية. وهكذا يجدن أنفسهن عالقات في ازدواجية ثنائية الثقافة التي تحكم عليهن بأن يكن في نظر الجميع، في فرنسا كما في الجزائر، مجرد دخلاء أبديين دون انتماء كامل.
الشخصيات النسائية كلها تقريبا يتم تصوير مشاعرهن بحساسية ودقة كبيرة فهن يتمتعن بالقوة والصبر أو القدرة على التمرد
بالنهاية، تكشف الرواية عن تعقيد العلاقة بين الجزائر وفرنسا “فرنسا والجزائر شقيقتان ممنوعتان. لم يتمكنا من العيش معا، لكنهما لم يتمكنا أبدا من العيش بدون بعضهما البعض”. إنها صورة مريرة لهجرة مؤسفة، صورة حزينة لعائلات لا تستطيع أن تجد مكانها بين بلدين، ثقافتين لم تندمجا تماما حتى خلال الجيل الثاني.
يذكر أن الكاتبة ليليا حسين صحافية فرنسية ولدت عام 1991، تخرجت في معهد الصحافة الفرنسي عام 2015، وعملت في عدة صحف شهيرة من بينها “لو موند” و”لو باريزيان”.
تعود بدايتها في عالم الأدب إلى عام 2019، حيث نشرت أولى روايتها وهي “عين الطاووس”، والتي حازت على جائزة المهنة 2020. في 2021، صدرت روايتها الثانية “مرارة الهجرة” التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة “جونكور” 2021 وفازت بجائزة مدينة “كان” الأدبية، في عام 2023
محمد الحمامصي
كاتب مصري