يسألني بعض الإخوة الأفاضل عن سبب ما يرونه تشاؤما أو حتى “مبالغة” في النفور من “كل شيء” رسمي.
سأحدثكم مرة أخرى وبتبسط أكثر عن حالتي كعضو هيئة تدريس في جامعة وطنية “يتيمة”. لتدركوا حجم معاناة من لديه ضمير حي في هذا البلد في ظل سياسات ظالمة رسمية وجماعية وفردية وعلنية وخفية.
لقد مارست التدريس أزيد من عشرين سنة بل وشاركت في تهيئة دروس وبحوث وندوات وأعمال قبل ذلك بسنوات ورغم سوء حال الجامعة ماديا ومؤسسيا فقد كنت على قناعة بأنه لا محيد عنها من أجل بناء تقاليد وطنية للبحث والتفكير والمعرفة والآداب تنمو في ظلها أجيال متوالية من الشباب الجاد والمثقف والمؤمن بالعلم والمعرفة والصالح العام، أقول وبكل أسف أنني عرفت متأخرا أن ذلك كان سرابا لكن المؤلم أكثر هو ما عرفته من أن الدولة الوطنية لا تقيم وزنا للجامعة أصلا و ما تعلنه بهذا الخصوص هو عكس لما تقوم به فعليا ولكن لا أحد يدرك تلك “الحكمة السرية” التي تجعل من دولتنا كيانا “يكره” العلم وأهله أو هما عدوه المبين. والمؤلم أكثر أنني اكتشفت أن الجامعة هي للجميع باستثناء القلة التي تؤمن برسالة التدريس أو تشكل إزعاجا لجهة لا تريد لهذا الشعب أن يرى بصيصا من الضوء في نهاية النفق.
لقد قالها لي وبكل صراحة عميد سابق: تأتينا لائحة بالمدرسين فلان يكون في كذا وفلان يتولى كذا وفلان ينال كذا ويجب تنفيذ ذلك من دون نقاش وبدون أي اعتبار للقواعد الأكاديمية حتى في مستوياتها الشكلية. يضيف: ما يتم في الجامعة لعلمك لا علاقة له بالعلم ولا بالكفاءة ولا حتى بالمسؤولية قال ذلك رفعا للحرج ودفعا للعتاب.
هل تعلمون أنه في كليات الجامعة يتم غلق المكاتب عن بعض أولئك المدرسين “المغضوب” عليهم وهل تعلمون أنهم يخضعون لرقابة لصيقة من دخولهم من الباب الخارجي إلى حركاتهم في أروقة المبنى وهل تعلمون أنه يتم فض اي تجمع طلابي حولهم منعا لهم من أي تأثير مفيد أو رأي سديد بين الهيئة الطالبية أو التدريسية أما عن الحرمان من حقوقهم الثابتة قانونيا وأكاديميا ومضايقتهم بكل السبل ودفع العناصر التابعة لتلك الجهات إلى تشويههم والإساءة إليهم فحدث عن ذلك ولا حرج.
مهما كانت مسؤولية المباشرين من هيئات خفية أو علنية فإن مسؤولية الدولة تبقى ثابتة لأنه لا شيء يحدث من دون علمها ولا سيما في هيئات أمنية عليا في الرئاسة نالها من التحريض ما نال غيرها في مستويات أدنى.
أيها الإخوة هذا غيض من فيض ونموذج جزئي ينبئكم عن حالة كلية وقليل من كثير يؤكد لكم أنه لا مكان في موريتانيا لأي مواطن غيور على بلده أما إن كان من أهل البصيرة والعقل فهو العدو الأول.
فتش عن السبب وعن المتسبب إنه هنا وهناك في قلب السلطة وهو منها ومن غيرها وجلاء تلك الأحجية يكشف عن حقيقة كالشمس رأد الضحى وهي أن دولتنا تهدم نفسها وفق أجندة رسمها آخرون هم من يحكمون فعليا والآخرون تبع لهم.
من يدرك قبسا من تلك الحقيقة سيعرف أن الحديث عن الفساد والظلم والإصلاح والمستقبل مجرد عبث وإنشائيات لأن الخطب أعظم والمصيبة أدهى وأمر.
تصبحون على وطن زائف ودولة من الخيال.
لقد ولدت الدولة الموريتانية وفي رحمها ثنائية غريبة تجمع بين من يؤمنون بها ولكنهم لا يملكون القرار ومن يملكون القرار ولا يحوزون “الشرعية” وفي ظل الصراع الخفي والعلني بين هذين الطرفين وبكل الأقنعة التي يضعونها وعبر كل المراحل والتقلبات صير إلى “توافق” غريب بين السلطة الخفية والسلطة الفعلية قوامه أن لا مكان للحق والحقيقة والصواب والأخلاق والمسؤولية بل هو الحظ العاثر ذلك الذي سيوقع مواطنا من “الخاصة” أو حتى من “العامة” في حقل من الألغام قوامه الإيمان الحقيقي بشيء ما في هذا الوطن لأنه سيكون ضحية لممارسات معقدة ومقززة ومنظمة من الإقصاء والمطاردة والكراهية وحتى البطش وبصور مختلفة لأنه كان في المكان الخطأ والزمان الخطأ أمام تلك القاطرة المعدنية التي تسير من دون فرامل على سكة بدون عودة. يظن الكثيرون من عامة الشعب ولا سيما من الشباب المتعلم أنهم يمارسون نقدا لشيء ما أو يقفون في موقع ما ضد طرف ما أو أنهم ينزعجون من وضع طبيعي قابل للفهم والمراجعة والحكم والبرهنة ولكنهم لا يدركون أنهم في “مصفوفة رقمية” كتلك التي وصفها الفيلم المعروف ب”الماتريكس” عن عالم افتراضي تديره آلات حاسوبية، والفرق هنا أنها آلات مريضة يحركها الحقد والمرارة أو يدفعها القنوط من رحمة الله إلى العبث بكل شيء حتى بمصير شعب بأكمله.
من لا يدرك عمق مأساة بلدنا لن يعرف سبب “تميزه” الغريب عن بلدان العالم بسيئاتها وحسناتها، ولن يدرك جوهر ما يحدث وهو سياسات الحقد الخفي أو ممارسات العبث العلني وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
يسأل الكثيرون: وما هو الحل؟ وأجيبهم: لا تشارك في الجريمة، وعليكم بالصدع بالحقيقة فهي الدواء لكل داء والحل لكل المشاكل ليس بطريقة حسابية بل بطريقة وجودية لأنها السبيل الوحيد للخروج من “المصفوفة” من الوهم والخيال الكاذب والسراب الجهنمي ومن عذابات الضمير ومن السؤالات القلقة والعبثية، وقد دلت التجربة التاريخية على أن المصلحين وفي كل الأمم والأمصار كانوا يملكون السلاح الأقوى وهو أن يقول أحدهم كلمته ويمضي لكنها باقية ما تعاقب الملوان تقض مضاجع أولئك الكارهين للفطرة والرافضين للحق والعدل والمسؤولية والمتشبثين بأحقادهم الدفينة وخياراتهم الفاسدة المعترضة على الأقدار والأنوار.
ألا تعلمون أن كل سانحة للإصلاح أو فرصة للنجاة في هذه البلاد الغريبة كان الصدود عنها أو وأدها في المهد على أيدي أولئك الذين غلبت عليهم أهواء الظلمة وغلبتهم شهوانيتهم القاهرة التي لا ترحم وهي تسد على نفوسهم أقطارها وتسدل على عقولهم المريضة ستارا حالكا من ليل بهيم من الأنانية والكره.
فلنصدع بالحق إذن؛ ولنعلن بالحقيقة ولنجهر بالصواب وهي سيوف أشد مضاء من السيوف الهندية وأقوى من كل الوسائل الأخرى. لا يعلم الكثيرون أنه سقط على درب النور الأزلي من أجل الحقيقة ومن أجل الإنسان في أرضنا رجال من كل صنف ومن كل المذاهب صمدوا حتى النهاية من أجل الحقيقة وحدها كل بطريقته وكل دفع الثمن المناسب لينال رتبته التي يستحق في مدراج العز والكرامة بعضهم تم قتله بنذالة والبعض الآخر جرت تصفيتهم في صمت و وقاحة لكن صدى كلماتهم ظلت تقض مضاجع أرباب الكراهية والحسد والأنانية وما تزال ويرفدها في كل مرحلة كلام متقطع لكنه لا يمل ثم يستحيل ضربا من التكرار البليغ يصدع بالحقيقة ويرفض النسيان.
جوهر مأساتنا هو النسيان أو في الحقيقة هو التناسي الغريب لما يصل إلى أسماعنا من نداءات جبليّة غير واضحة لكنها مفهومة هي النداء المخيف لكل الكائنات التي تكدر عيشنا وتسلبنا حريتنا في الاختيار وتجعلنا أسرى “للماضي” أو للحاضر الزائف، كي نضيع في نهر الزمان السرمدي لا نرى شمسا ولا قمرا ولا نعرف أين نحن بينما هي كلمة حق واحدة تصبح حقيقة حين نعلنها وتصير صوابا حين نفهمها ونطبقها لتدحض أوهام الرداءة وخيالات السفه والتفاهة.
لقد قيل للرسل أن يصدعوا بالحق ويكفي لأنه بعدها تصبح للحقيقة قوتها الذاتية التي تدفعها دفعا في كل الاتجاهات لتصيرا صوابا بين الجموع التي لم تكن تدرك شيئا.
الكلمة أقوى سلاح شرط أن تكون مقدسة وطاهرة وبسيطة ومقنعة لتطمس الأفكار الرديئة والسياسات الخاطئة والعفن اللامتناهي الذي يعشعش في البيوت والأذهان ويجعلها تفيئ إلى ظلال الدعة والسكون لتصيبها بشلل التخدير والوعود.
ذات يوم في أيام خلت قالها مدير جهاز حساس ـ لشباب يافعين: لماذا تستعجلون وقد آذنت أرضكم بأن تخرج أثقالها من الزيت، كان صادقا وكاذبا في الآن نفسه لأن ما وعد به كان حقيقيا لكنه وعد عرقوب لن يتحقق منه شيء لكن المؤلم في الأمر أن أولئك آمنوا بشي من تلك الوعود فخسروا زهرة شبابهم ولم ينالوا من ذلك شيئا.
الحقيقة وحدها من يهزم نقيضها وهو الوهم والسراب والخيالات المريضة ويجعل كل ذلك هباء منثورا.
إنها لا تكلف شيئا غير الصبر عليها وهو ثمن غير يسير بيد أنه ممكن وميسور ولابد منه.
تمددت السلطة الخفية في جسم الدولة والمجتمع تماما كما تمددت السلطة “الشرعية” في المجتمع والدولة أيضا، إنهما توأمان خرجا معا ملتصقين تغذوهما لبان الطاغوتية المؤسسية ويفرقهما المزاج والسلوك وكأنهما من صنف مختلف.
ليس المهم “التأريخ” حفريا للميلادي القسري والمتجدد لذينك الكيانين الغريبين بل الأولى هو فهم طبيعة التكامل بينهما في تحقيق أقصى الأذى لكل ما هو سوي وفطري وطبيعي وسعيهما الدؤوب لنشر روح اليأس والضعف والذبول بين أولي البصائر والهمم والنيات الحسنة.
تلتقي ممارستهما المؤسسية والمنهجية في إنتاج عصاب جماعي من نوع غريب يصيب الجميع بالهوس بالخفاء والتعلق بالعلنية معا وفي الآن نفسه .
ذات مرة تصور أحد الحالمين من رجال الأكاديميا النادرين أنه بمكنته خداع “العلن” والفرار من “الخفاء” وكانت النتيجة أن قال: بصرت بما لم أبصر به من قبل وهو أنه لا فكاك من هاذين إلا بأن تقتنع أنك أعمى أو أصم أو هما معا حينها يمكنك السير مع تلك الجموع المصابة بمرض “الزومبي”.
إنها حالة غريبة من الوجود العبثي التي تجعل الكيان الفعلي هو واجهة الكيان الخفي ويكون هو باطنا له، في تكامل غير طبيعي ونادر.
لكنه هو السر في إطباقهما ومن غير نصب على الجموع والفئات والخيارات بل وعلى الخطاب نفسه بكلماته وأشيائه ورؤاه لتكون السيطرة الكاملة.
عبر التاريخ كان الخيار مع هكذا حالة هو “فيروس” يفسد المصفوفة من داخلها ويجعلها تعيد بناء ذاكرتها بالخطأ لتكون فريسة سهلة للصدى الذي يزعجها ويتربص بها من غير انقطاع.
الاختراق من الداخل لن يتم إلا من الخارج أي بتلك الكلمة القويمة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تقبل التغيير لأنها النقيض الموضوعي للوهم والعجز والتردد والأحقاد الدفينة.
إنها كلمة الحق وليس غيرها