كنت خلال السنة الدراسية 1960-1961 بمثابة مستمع حر طليقٍ في السنة الأولى من مدرسة ابَّيْر التَّورس الابتدائية ولمَّا أبلغ السنّ القانونيّ اللازم للتسجيل بها رسميا .. و بمفهوم ما عُرف في نظامنا التربوي لاحقاً بالأقسام متعددة المستويات كان القسم الدراسيّ الذي لا أنتمي إليه رسميا وإنما أختلف إليه من حين لآخر قسما متعدد المستويات إذ أنه يزاوج بين من لا مستوى له (دون الحضانة ) و القسم الأول الابتدائي .. وقد منحني ذلك الامتياز العبدُ الصالح المختار امُّ بن أحمدُّ بن المختار رحمه الله المعلم في المدرسة حين استقبلني في قسمه تلبية لرغبة خالي رحمه الله..و ربما يكون ذلك الخال الحنون قد عمد إلى ذلك رأفةً بشقيقته الوالدة فأراد أن يخفف عنها أعباء تعب طفلها المشاغب في المنزل، أمَلاً في أن يكون حظه المحتمل بذلك الاكتتابْ أوفرَ من حظه التعيس في الكُتَّابْ . في تلك السنة الدراسية صادفتُ الفقيد أستاذنا العلامة الجليل حمدنْ ولد التَّاهْ لأول مرةٍ ضمنَ طاقم التدريس (ولم أتذكر إن كان وجوده بصورة رسمية أو مؤقتة).. كان هو المعلم الوحيد لمادة اللغة العربية إلى جانب معلميْ الفرنسية القرينيْن : المختار امُّ بن أحمدُّ و عبد الله (عبدُ) بن القاضي امَّيَيْ . أما مدير المدرسة فهو محمدْ بن اعلِ سالم (من أعيان أولاد عايد ) تغمدهم الله جميعًا برحمته الواسعة.. وربما تكون تلك السنة الدراسية كذلك هي بداية عهدي بالمشويِّ مقدّماً في الحفلاتِ الرسمية .. فقد انتُدب إليّ ذاتَ يومٍ زوالا في المنزل من تلاميذ المدرسة من يُحضِرُنِي إلى مأدبة غداء ينظمه مدير المدرسة بمناسبةٍ قيل لنا آنذاك إنها تُقامُ تخليداً لذكرى حدث هام اسمه “عيد الاستقلال الوطني” ! تذاكرتُ مؤخراً حول ذلك الحفل في سياق معيّن مع أخي الأكبر ببّها بن أحمدْ يوره فقال لي إنه يتذكر من بين الحاضرين يومذاك من أعيان الحيّ الرجل الجواد المنفق أحمدُّ بن المختار رحمه الله الذي يقول الأستاذ حمداً رحمه الله في رثائه قطعته الرائعة :
وداعا يابْن زائدةَ الأيادي
ويا معنَ العشيرة والبلاد
�وداعاً للفتوة يوم ولتْ
تشاركها السماحة فى الحداد
�على الفيّاض أحمدُ يوم ولَّى
وأضحى الجوُّ يرفل فى السواد
�وداعا للسيادة والمعالي
وإنفاق الطريف مع التلاد
�فسل عنه القبيلة إن ألمتْ
ملمات الحوادث والعوادي
�سيخبرك العفاة بما حباهم
وهذي الحال شاهدة تنادي
�وإنا والقلوب بها جراح
لنفخر بالبنين على الأعادي
�أباة قد تغذوا من أبيٍّ
كرام قد تربوا من جواد
�ولا زالت من الرحمات تترى
هتون من مداليج الغوادي
�على قبر تضمنه وفاحتْ
له النفحات تحمل عرف جادِ
�صلاة الله يشفعها سلام
على خير البرية خير هاد.
قال لي امحمدْ المشتهر بكنيته امَّدْ بن أحمدُّ بن المختار إنّ حمداً قدم من انواكشوط لتعزيته في والده أحمدُّ وأثناء جلسة شاي عابرة بُعيدَ قدومه بعد المغرب سأله إن كان رثاه قال له : هل لديك ورقة وقلم ؟ قال: قلت له نعم وهيأتهما له فطفق يملي علي ارتجالا هذه القطعة.وبالمناسبة سمعتُ الفتى ببّها بن حمداً يقول إن والده حمداً كثيرا ما كان يقول :” أحبُّ أصدقائي إلى قلبي هو القارئ محمدْ سالم بن والدْ و ما أعجبُ بأي منهمْ قدرَ إعجابي بصديقي امّدْ بن أحمدُّ بن المختار “! والواقع أن الأستاذ حمداً كان مُحِبّاً لجميع أصدقائه ومُعجَباً بجميع أصدقائه على أنَّ فارق السنّ لم يشكل يوما من الأيام حدا فاصلًا في صداقات الشيخ الفقيد!و تشاء الأقدارُ أن يدفن الثلاثة متجاورين في مقبرة المدروم! قال لي امّدْ بن أحمدُّ مرةً إن حمداً أسرَّ إليه سنة 1955 وهما إذ ذاك في حدود العشرين سنةً إنه يغشاهُ حالٌ ينغّص منامه مفاده أنه كلما أوى إلى فراشه أحسَّ بأزِيزِ متواصل بين جوانحه كأنما هو علوم تُبثّ في صدره مثّلها بما يُعرفُ آنذاك بتُرْنْ دِسْكْ وهي بمثابة الشريط بلغة العصور اللاحقة!
وأعود فأقول إنّ مِن مشاهد الطفولة التي لا تزال عالقة بذاكرتي في الحيِّ حفلٌ يقامُ ليلا بمناسبة اجتماعية لأحد أصدقاء الاستاذ حمداً وتتالتْ “الگيفانْ” في أحد مقاطعه (أشواره ) فقال حمداً في ذلك گافهُ الشهير :
لا بدّالِ من ظرْك انبانْ
گافْ انگولُ ماهُ دونِ
خايف من عدتْ ” أهل الگفانْ”
گاعْ إجيبوهَ من دونِ ” !
وقد أجمع المتأولون لذلك الگافِ من أصدقائه السابقين إلى ” الگيفان” ليلتئذ بأن فيه تورية عن نية له معيّنة تحققت لاحقًا !
وفي السنة الموالية للسنة الدراسية آنفة الذكر أي سنة 1961 م ، كان الشيخ حمدا ضمن بعثة المعلمين المنتدبين للدراسة في تونس العاصمة ..و انتُدب معه في تلك المهمة نخبة من المعلمين من بينهم أخوهُ المرحوم ببّها بن التّاه .
وكانت تلك السنة نقطة تحول كبير في حياة الطالبيْن إذ فُتحت لهما فيها “آفاقٌ رحبةٌ للتربية الروحية ” كما يقولان على يد رجل تونسي صالح هو الشيخ الجليل جلول الجَزيري الذي يقول عنه الأستاذ التونسي محمد صلاح الدين المستاوي إنه ” إشعاع روحي تجاوز حدود تونس” : وقد استمرتْ تلك الصلة بينهما معه و مع بنيه وأحفاده من بعده إلى ما شاء الله .. حدثني شيخنا حمدن عن أول لقاء لهما بالشيخ جلول الجَزيري فقال : “كنت طالبا مطلع الستينات في تونس العاصمة فسألت مرة بعض الطلاب هل صادفوا وليا لله في هذه الربوع، فأجابني طالب سنغالي بالإيجاب و دلَّني على موقعه الجغرافي.ذهبت إلى حيث وصف الدليل صحبة أخي ببَّها الملقب ببَّ و لمَّا دخلنا سوق الشواشين بالعاصمة فتَّشنا بنظرنا عن المتجر رقم سبعة (7) فما اهتدينا إليه و ما زلنا في حيرة من أمرنا حتَّى إذا أقبل علينا رجل فقال: دلَّكما عليَّ السنغاليُّ ؟! فعلمنا باليقين أننا ما ضللنا و لكننا مهتدون”!
و من تلك اللحظة بدأت علاقة الرجلين بذلك الرجل الصالح ذي العلوم الظاهرة و الطباع الآسرة و الأسرار الباهرة و هي أسرار نوَّه بها الأستاذ حمدن مرةً في معرض حديثه عن سر الحرف في أحد برامجه الرمضانية الممتعة في قناة الساحل.
وفقني الله لزيارة ذلك الشيخ الصالح يوميْ السبت والأحد 26 و 27 ربيع الثاني سنة 1402 هجرية الموافقين 20 و 21 فبراير 1982م في تونس العاصمةِ أولاهما في متجره الصغير رقم 7 في سوق الشواشين والثانية في اليوم الموالي في منزله المتواضع في قلب المدينة.وكان ذلك رفقةَ مريده الصادق المرحوم ببَّها (بَبَّ ) بن سيدي بن التّاه .. كان الشيخ ببّ خلال تلك السنة الدراسية طالبا متدرّبا في مجالٍ ظاهرُه تقنيات محو الأمية و باطنه أفصح لي عنه بقوله :”أنا المدير المسن العائد من الوظائف الوطنية السامية إلى مقاعد الدراسة في الخارج فماذا عسايَ أتعلم من جديد؟ إنما هي سنة دراسية في مجال محو الأمية بمنحة معتبرة من اليونسكو اغتنمتها فرصة لملازمة هذا الشيخ المربي المسنّ “! أخبرني ذو ثقة أنّ المرحوم ببّ أحرز التقديم من الشيخ جلول في الطريقة التيجانية وانّ الأستاذ حمدنْ أخذ ورد النقشبندية ولم يخبرني بسنده فيه ..
خلال زيارتي تلك ظفرتُ من الشيخ جلول الجزيري بدعوات صادقة و نبهني إلى أسرار أودعها الله في سورة يس ، وإلى بركة قصيدة البردة في المديح النبوي وقال إن ” البردة” هي “برءُ الداء” و ألح عليّ إلحاحًا بكتابة حكمة بالغة الأهمية تضمنها بيتان أملاهما عليّ إملاءً وهما :
لا تبالِ بحاسدٍ أو عدوٍّ
غمُّهمْ ينمو أن تُهنّا وتسعدْ
أترى الناس يحسدون حقيرًا
آيةُ الكون أن تُعابَ وتُحسدْ !
قلتُ في نفسي بعد ذلك : لعله كوشف له وهو ذو الكشف الصادق أنني سأكون كثيرَ العيوب ، مُبتلًى بالاستهداف!
وبعد أربعة عقود من ذلك اللقاء الروحاني الطيب زرت ضريح الشيخ جلول ضحوة يوم السبت 07 يناير 2022 م. ويوجد في سفح جبل دُفن على قمته مؤسس الطريقة الشاذلية الشيخ الرباني المربي أبو الحسن الشاذلي !
جاءتْ تلك الزيارة بمساعدة حفيده أخينا مالك بن الطاهر بن الشيخ جلول الجَزِيري الناشط في مجال صياغة الذهب و ثالثنا الدكتور محمدن بن أحمدُّ بابَ المشتهر بكنيته “الدهاه” الموظف السامي في مجلس وزراء الداخلية العرب وهو حفيد العلامتيْن : محمذن بن عليٍّ ومحمد عالي بن محنض . وفيه سبق أن جاءتْ القطعتان التاليتان بيني وبين أستاذنا محمد فال بن عبد اللطيف- ببَّاهْ علَماً – و يعود تاريخهما إلى شهر مارس من سنة 2010م و كان العلامة حمدنْ يستحسنها ويسميهما اصطلاحا ” قطعتيْ الباء والتاء”..
قال الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف الملقب ببَّاهْ :
نعم “الدهاهُ إذا الغريب أتاهُ
وإذا الملمُّ أتاه نعم فتاهُ
ثِنْتا الأشجِّ حواهما وعن العلا
والسعي في العلياء ما ثَنَتَاهُ
وإذا أتى وفد لتونس زائرا
في بعض الامر أَتَاهُ بل آتاهُ
هذا الذي طلب الكرام فضُلِّلُوا
عن دربه فأتاه من مأتاهُ
لم يَسْطَعْ ” استدمينُ ” عنا كتمَ ذا
عصتاه في كتمانه شفتاهُ!
وقلتُ مُجيباً نيابةً عن الدكتور المغترب :
نعم الذي فعلُ الخنا يأباهُ
“ببَّاهُ ” يا نعم الفتى “ببَّاهُ “
فإذا دعا داعٍ لغيٍّ ما اندعى
وإذا دعا داعي الهدى لبّاهُ
سرٌّ إليهِ قد سرى ينساب من
سلف على نهج العلا ربَّاهُ
سرٌّ حواه رواه عن آبائه
ورواه عن أجداده آباهُ
لم يَسْطَعْ “استدمين” عنا كتمَ ذا
شفتاه لم تقبله بل تأباهُ !
هذا وبعد عودتنا من المقبرة قصدنا سوق الشواشين ومررنا على المتجر رقم 7 فإذا به لا هو هو ولا الأيام أيامُهْ .. قد تداولتْهُ الأملاك كأوسع ما يكون التداول تماماً كما حصل لجميع موروث الشيخ جلول بما في ذلك منزله الصغير في قلب العاصمة.
وأعود لموضوع الشيخ حمداً لأتحدث عنه في فترة لاحقة عرفته فيها حق المعرفة إذ أقمنا شهورًا تحت سقف واحد وكنت له بمثابة الابن والتلميذ والمُريد وكان لي نعمَ الوالد و الأستاذ والشيخ المربّي ..كان ذلك خلال السنة الدراسية 1971 – 1972م وكنا في ضيافة أحد الموظفين من الحي في منزل حكومي ..أما أنا فقد قدمتُ من ثانوية روصو في مستهل السنة الدراسية أملا في التحويل إلى انواكشوط وأما هو فقد قدم رفقة شقيقه ببَّ من معهد بوتلميتْ حيث كانا يتقلدان مهمة التدريس ، وجاءا للمشاركة في مسابقة تنظمها المدرسة العليا لتكوين الأساتذة (ENS ) من أجل اكتتاب طلاب أساتذة و طلاب مفتشين.وشاءت الأقدار أن أكون حاضرا لإعلان النتائج وذلك على النحو التالي : في يوم من أيام ترقُّب النتائج طرق علينا الباب الأستاذ محمد المختار ولد ابّاه مدير المؤسسة و رئيس لجنة المسابقة بها رفقة شخصين أظنّ أن من بينهما اكَّاهْ بن ايَّايَ.. وبعد مراسيم السلام الاعتيادية وحديث خاطف تناول مواضيع آنية متفرقة ، قال الأستاذ محمد المختار :” نحن في لجنة الامتحان واجهنا إشكالٍ كبير في ما يتعلق بتصحيح أوراق المشاركين في مسابقة دخول المدرسة العليا للأساتذة ..فإذا نحن اعتمدنا كمعيار عمل الأستاذ حمدًا نجحَ حمداً وحده وسقط بقيةُ المتسابقين.وإذا اعتمدنا كمعيار عمل الأستاذ ببَّ نجح ببَّ و نجح معه بعض المتسابقين ، فاضطُررنا اضطرارًا إلى اعتماد الخيار الثاني !! وهكذا لم ينجح حمداً في تلك المسابقة لأن الله أراد أن يضع حدا لمساره في مجال التعليم النظامي الضيق الذي استهل به حياته الوظيفية باكراً ، ليفتح له منه آفاقًا وطنية و كونية جديدة رحبةً زاوج فيها بين الدعوة الصادقة إلى الله بالحكمة والموعظة والدفع بالتي هي أحسن وردّ الشبُهات وبث العلوم الشرعية في صدور الناس وفق منهج مبتكر عجيب ..وهكذا تزامن الافتتاح الدراسي في المدرسة العليا للأساتذة تلك السنة مع دخول الأستاذ حمداً مكتبه الجديد مديراً للتوجيه الاسلامي في عهد الوزير الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه .. ومن هنا كانت البداية ! أطل الأستاذ الجليل حمداً ولد اتّاه على الناس في مكتبه في أوقات الدوام الرسمي وفي منزله خارج تلك الأوقات و في مختلف المراكز الثقافية و في دار الشباب القديمة وفي المحاضرات والندوات العلمية في الداخل والخارج و عبر وسائل الاعلام في برامجه الاذاعية المنتظمة و في كتاباته ومقابلاته في الجريدة فبهر الجميع بذكائه الخارق وبفهمه الفائق وبأسلوبه الرائق، و سرعانَ ما ملأ الدنيا وشغل الناس وكل ذلك ينتظمه سلك واحد هو البساطة والأريحية والتواضع ! وفي تلك الفترة بالذات بلغ الأستاذ حمداً ذروة الإبداع و نشوة العطاء ..كان تعيين الأستاذ حمدًا مديرا للشؤون الاسلامية فاتحة خيرٍ بالنسبة لي شخصيا إذ أدرجني في لائحة أسرته الخاصة فاكتسبتُ بذلك مع بعض التلاميذ منهم ، حق التحويل تلقائيا إلى إعدادية خيّارْ في بي أمْ دي، بعد أن فقدتُ الأمل في التحويل بل و حتى في مجرد استعادة معقدي في ثانوية روصو نظرا لطول التغيب غير المبرر..و لا أنسَى أنه بلغ من التواضع أن رافقني مرة عشيةً راجلاً من منزل بجوار دار الثقافة حتى الاعدادية ليستلم لي منحتي من المقتصد المرحوم بابَ بن محمد بن أبي مدين..
كان الأستاذ حمداً ظاهرة فريدة .. حدثني الأستاذ جمال بن الحسن رحمه الله أنه كان مرة ضمن لجنة مشتركة ضمت بعض كبار المثقفين من جميع أنحاء الوطن من بينهم الأستاذ حمداً و الشاعر أحمدو بن عبد القادر ..وكان جدول الأعمال يتعلق بمسابقة ثقافية لتحضير حدث وطني هام .. وفجأةً وصلتْ اللجنة المجتمعة في دار الثقافة حيث مقر وزارة الثقافة ، إلى نفق مسدود نظرا لاعتراض بل لامتعاض بعض الأعضاء المنحدرين من الضفة من إدماج بعض المواد المقترحة في البرنامج و إصرار بقية الأعضاء على الاحتفاظ بتلك المواد .. قال جمال : وكاد ذلك الاجتماع الرسمي ينفض دون نتيجة ، فما كان من الأستاذ حمدا إلا أن طلب مني شخصيا أن أؤمن له مهمة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية فقبلت طائعا فأخرج أدواته ذات الدخان من جيبه وأخذ من عظمه مرة أو مرتين ونفث الدخانِ جانباً وتناول الكلام بكل ما أوتي من منطق وبيان فأجاد وأفاد وأبدع وأقنع ، وما اكمل حديثه القويّ حتى تحقق المستحيل إذ تنازل القوم طواعية عن آرائهم السابقة وآل الاجتماع إلى كلمة سواء بين جميع المشاركين ! قال جمال : عندئذ كدنا جميعنا وخاصة منا الشاعر أحمدو بن عبد القادر نطيرُ فرحا واعتزازا بالرجل و بالطريقة التي أنقذ بها الموقف !
أما أنا فأقتصر على ذكر مسألتين من خدمته للوطن والاسلام والمسلمين : أولاهما أن أحد أساتذتنا في إعدادية البنين الناشئة هو أحمدْ بن سيدي محمد فاجأنا مرة بنبأ مَفاده أن هنالك كتيّب متداول في انواكشوط يحمل عنوان ” هل يمكننا أن نؤمن بالقرآن ؟” هو من تأليف أحد كبار السفراء الغربيين المعتمدين في انواكشوط! ولما أخبرتُ الأستاذ حمدا بذلك طلب مني أن أرتب بينهما اللقاء في المنزل ففعلت .. وفي الليلة الموالية على ما أعتقد طلع علينا السفير المؤلف في الاذاعة الوطنية وهو يعتذر للشعب الموريتاني المسلم عن توزيع ذلك المنشور المشؤوم!أما المسألة الثانية فهي ذات صلة وثيقة بالمسألة الأولى : كانت هنالك عوامل في ذلك العهد سياسية وإيديولوجية و تربوية تعصف بعقائد التلاميذ و كنت كلما صادفتُ بعض هؤلاء أعقد لهم لقاء مع الأستاذ حمداً ليلا في منزله فيجيب بأريحية على استشكالاتهم العقدية .. وكل ما أعرفه هو أنهم كانوا يخرجون من عنده وهم معجبون به أيّما إعجاب ..تلك ظواهرهم والله يتولى سرائرهم ..
وفي سياق آخر أذكر من زوار الأستاذ حمدا في منزله آنذاك الشريف القاضي ابَّين ولد ببانَ وكانت مذاكرة الشيخين ممتعةً.
كان الأستاذ حمدا آنذاك في بداية عهده في إدارة التوجيه الاسلامي ولكنه لم يلبث أن عين وزيرا للتوجيه الاسلامي خلفا للشيخ عبد الله بن بيه الذي ارتقى إلى منصب وزير دولة بموجب الهيكلة الجديدة للحكومة.كنت معه عشية في منزله في ilot L ، فقدم إليه رجل أومأ إليه خفية فخرج معه ثم رافقه على عجل إلى جهة ما .. وعلمنا لاحقا أن الزائر هو المرحوم المجتبى ولد محمد فال من ديوان رئيس الجمهورية الأستاذ المختار بن داداه (لعله المدير أو المدير المساعد ) وأن الجهة التي توجه إليها هي رئاسة الجمهورية .. وبعد ذلك بساعات معدودة ظهر الأستاذ حمداً في التشكيلة الحكومية الجديدة ضمن أحد عشر (11) وزيراً جديدا.و شاءت الاقدار أن أتشرف رفقة المصور چيبي اديالُّو حفظه الله بالاتصال بهؤلاء الوزراء الجدد جميعًا في منازلهم لأخذ سيرهم الذاتية والتقاط صورهم لنشرها في العدد الموالي من جريدة الشعب في طبعتيْها العربية والفرنسية ..أنجزتُ تلك المهمة بحماس الشاب اليافع حديث العهد بالاكتتاب صحفيا في الشركة الوطنية للصحافة حديثة النشأة وذلك على أساس شهادة الاعدادية ( فرنسية ومزدوجة ) التي اكتسبتها في دورة يوليو 1975م.
واكبتُ الأستاذ حمداً الوزير في مختلف نشاطاته الرسمية و غير الرسمية ولعلي من أول من سمعوا منه قصة الرداء يوم قصف البوليساريو للقصر الرئاسي ابّان اجتماع مجلس الوزراء برئاسة الرئيس المؤسس المختار بن داداه ..وأذكر أن ذلك القصف قد تكرر فورَ عودة المجلس لاستئناف اجتماعه في الليلة الموالية ..
وفي 10 يوليو 1978 أُطيح بالنظام المدني للرئيس المختار بن داداه و توالت الأحكام العسكرية الاستثنائية .. و في تلك الحقبة تفرغ الأستاذ حمدنْ لنشاطاته الثقافية قبل أن يستعيد لاحقا مساره الوظيفي من حيث بدأه مديراً للتوجيه الاسلامي ..قال لي الامام شغالي مرة :” ما رأيتُ قطُّ مثل الشيخ حمدنْ بساطةً في الموظفين.. فمعنوياته تبقى دائما على وتيرة واحدة كيفما كان وضعه في الوظيفة أو خارجها “! وفي تلك الفترة واصل الأستاذ حمداً نشاطاته الثقافية التي لم تتوقف بتوقّف عمله الرسمي ، فزاوج بينها وبين نشاطاته الرسمية . ثم انتقل الأستاذ حمداً بعد حين إلى وزارة الخارجية والتعاون فتقلد فيها وظائف مختلفة .. و أذكر أنني جئته مرة فصادفتُ قدومه من ليبيا حيث كان يحضر مؤتمرا اسلاميا ضمن وفد يترأسه وزير الخارجية آنذاك المرحوم حمدي ولد مكناس .. فناولني نموذجاً من الورق المقوَّى الذي يُلفّ حوله القميص الجديد عند خروجه من المصنع.وإذا بهذا الورق يتضمن قصيدة كتبها بيده .. وروى لي القصة التالية : قال إن الوزير حمدي ولد مكناس أخبره في وقت متأخر من الليل أنه اتفق مع الرئيس معمر القذافى على أن ينشئ الوفد الموريتاني قصيدة تكون شعارا للمؤتمر ويتم إلقاؤها في الجلسة الختامية المقررة في صباح اليوم الموالي..قال: فبدأت إنشاء القصيدة ولم أجد ما أكتبها عليه سوى هذه القطعة التي انتزعتها من قميص بجانبي! إبتداءً من تلك اللحظة عرضتُ عليه فكرة كتابة ديوانه وانطلقنا في تنفيذ المشروع .وأذكر أنه في تلك الفترة حاول مرات عديدة ولكن دون جدوى أن يتذكر قطعة له يستحسنها كثيرا لم يستحضر منها سوى “غُرَيِّدِ نُعمى ” ويعني به موضع ” اغْرَيْدْ نعمَ ” في شمال منطقة إگيدي . ومن بَدِيع شعره قوله:
انظرْ إلى هذا الوجود فإنهُ
لغزٌ يحار العقل في تعليلهِ
نظر المفكر نحوه فتتابعت
نقط السؤال وحار في تحليله
سرّ الحقيقة في الحقيقة كامنٌ
لا تستطيع البتّ في تفصيله
ما ذا فهمتَ من الوجود وسرّه
يا من يحاول أن يسير بجيله
فككتَ منه ذرة عن شكلها
هلا تركتَ الذرّ في تشكيله
وذهبتَ في الصاروخ تكتشف الفضا
ما ذا عرفت من الفضا وجميله
لو يُمنع الإنسان نورَ عيونه
ما أدرك الألوان في تمثيله
لو أعطي الإنسان سادس حسّه
لبدا خفيّ كان في منديله
فكر وراء الكون تعلم سره
لا تجعل التفكير في إكليله
الفكر إلاَّ بالرسالة قاصرٌ
حِلَقُ الرسالة جئن في توصيله
لا تسمع التصفيق فهو مضلةٌ
تنسي الحكيم وصوله لسبيلهِ
واعرف لنفسك جهلها إن الفتى
دعوى العلوم تزيد في تضليله
واعرف لربك حقه حقا ولا
تفصل ذرى القرآن عن إنجيله !
وتمضي الأيام و يتم إنشاء بلدية ابَّيْر التَّورس 1988 و يقرر المجلس البلدي الجديد (وكنت عضوا فيه ) برئاسة والدنا العجيب المرحوم محمد فال ببَّها تنظيم موسم ثقافي سنوي خلال العطلة الصيفية في جميع القرى التابعة للبلدية وهي آنذاك : ابَّيْر التَّورس و انيِفرار و انهُكاره و أيْشايَ قبل أن تلتحق بها لاحقا قريتا احسيْ الرحاحلهْ وبئر الجوده.و كان أستاذنا حمداً منظراً رائداً ومشاركا نشطاً في جميع الملتقيات المنظمة موسميا في قرية ابَّيْر التَّورس عاصمة البلدية .. ومعروف أن الأستاذ حمداً وشقيقه ببَّ كانا يديران محظرة أهل اتّاه في ابَّيْر التَّورس وكنت من رواد تلك تلك المحظرة .. وأذكر أن من طرافة الشيخ حمداً أنه بينما كان يُلقي درساً زوال أحد الأيام في تلك المحظرة إذ لاحظ أن أحد أصدقائه من الحاضرين قد نام غلبةً أثناء الدرس ثم استيقظ فجأةً وقال بالحسانية معتذرا : ” آن ارگدتْ !” فما زاد حمدا على أن داعبه سائلاً : ” باشْ احلمتْ ؟” فضحك الجميع ثم واصل الدرس..
وأذكر أنني اتخذتُ لاحقا المبادرة في تنظيم ملتقى ثقافي في ابَّيْر التَّورس أبدع فيه الشيخ حمداً كعادته إلى جانب أساتذة كبار آخرين مثل لمرابط محمد سالم بن عدود و الأستاذ سيدْ أحمدْ بن الديْ و د. هيبتنَ ولد سيدي هيبه و د. محمد الأمين بن الكتاب و مدير الثقافة آنذاك الأستاذ دمبَ بن الميداح مُنْتَدَبًا للافتتاح والاختتام من قِبَلِ الوزارة المكلفة بالثقافة.
هذا و فضلاً عن الثقافة فقد كان للأستاذ حمداً حضور متميز في الساحة السياسية إذ كان عضواً في اللائحة البيضاء الفائزة في الانتخابات البلدية في انواكشوط 1986 برئاسة د. محمد محمود ولد امّاه ، وكان عضوا مؤسسا في نهاية سنة 1991 في حزب RDU برئاسة الأستاذ أحمد بن سيدي بابَ..وفي ذلك الإطار زرته مرة في مقر إقامته في كيهيدي سنة 1991 ضمن وفد حزبي برئاسة الأستاذ أحمد بن سيدي باب وعضوية انگامْ لِيرْوَانْ والأستاذ حمداً وغيرهما .. وأذكر أنني سمعتُ الرئيس أحمدْ بن سيدي باب ليلتئم يقول إنه عجز عن إقناع الرئيس معاويه بن سيد أحمد بن الطايع بالترشح مستقلا ليترك المجال بعد ذلك لجميع الأحزاب على حد سواء لتدعم ترشحه!
وكان للأستاذ حمداً كذلك حضور قوي في المجتمع المدني في إطار جمعيات وهيآت مختلفة من أبرزها رابطة العلماء الموريتانيين..ومن طرافته أنني صادفته مرة في مبنى وزارة الداخلية صحبة قرينه د. الشيخ ولد الزيْن فدفع إليّ ملفا بحوزته وقال لي بالحسانية :” هاذَ طلب لإنشاء مركز .. هاذُ المراكز إبانُ گَلْعُ لبْنْ الجمعيات غيْرْ الحكومية “!
وقد سمعته مرة يشجع الخيّرين على المشاركة في معترك الحياة المعاصرة فيقول :” إن خيرَ الشرِّ مُطالَبٌ به شرعاً في عالمنا المعاصر “! وموازاة لنشاطاته الثقافية والجمعوية ، كان الأستاذ حمدا كذلك خبيرا استشاريا دائما لدى بعض البنوك المحلية باعتباره بارعًا في المعاملات الاسلامية و كان أيضا خبيرا استشاريا لدى بعض المنظمات الدولية العاملة في مجال التنمية المحلية على عموم التراب الوطني .وفي ذلك الإطار بالذات كنت وإياهُ في سنة الفين 2000 – 2001 ضمن فريق من المتعاقدين مع التعاون الألماني Girnem لإجازة Validation مشروع المرسوم القاضي بتطبيق المدونة الرعوية الموريتانية ..وبعد ذلك بفترة وجيزة استقبلته في منزل الحاكم في مدينة شنقيط صحبة محمد المختار ولد امباله و أحمدو بن عبد القادر فظفرتُ منهما بسمر طيب طريف .. كان ذلك على هامش أيام تفكيرية حول إصلاح القضاء نظمها البنك الدولي من 7 إلى 9 أغسطس 2004م بإشراف محمد سعيد بن همَّدِّي و د. محمد بن محمد الحسن .وأذكر أن هذا الملتقى حضره كذلك لمرابط محمد سالم بن عدود الذي أنشد في جلسته الافتتاحية القطعة التالية :
أيامُ شنقيط للتفكير مشهوده
وأرضها لقرى الأضياف معهوده
وقد دعتنا لتطوير القضاء معاً
فليبذل الكل فى التطوير مجهوده
بما يحقق شرع الله جلَّ وما
تغدو به سبل الإجراء ممهودهْ!
ثم انصرف الشيخ عدود قبل نهاية الملتقى ، وفي الجلسة الختامية اتخذتُ أنا المبادرة في توديع المشاركين بالبيتين التاليين باسم مدينة شنقيط :
يا ملتقى لستُ أدري للوفا ما ذا
أُسدي إليه جماعاتٍ وأفذاذَا
أدعو بحقِّ مواثيقٍ لنا جمعتْ
لا كان آخر عهدٍ بيننا هذا !
قبل سنوات تدهورت صحة الاستاذ حمداً وكنت أختلف إلى مجلسه من حين لآخر..وفي كل مرة أظفر منه بحكم أو حكمةٍ مستمدة من صميم مدرسة الحياة ..
جزى الله عنا أستاذَنا الجليل حمدًا ولد التاهْ بأحسن جزائه و عن الوطن والأمة الاسلامية جمعاء:
ذاك شيخي فمَن يجيء بشيخٍ
نِدِّه أو شبيههِ قلتُ هاتِ !
تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وبارك في خَلَفِه من بعده وجعلهم خير خلف لخير سلف .
محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ
رحم الله السلف وبارك في الخلف