في تواريخ مماثلة شهدت موريتانيا أحداثا مزعجة..
– 16 مارس 1982 تأسيس تنظيم سري عسكري لإحدى ثلاث حركات ستشكل بعدئذ ما يسمى ب(افلام).
– 16 مارس 1982 إخطار السفن الروسية بحظر تصدير السمك الى العراق.
16 مارس 1984 استجلاب “تعذيبة الجاكوار” التي استخدمت ضد الناصريين..سميت باسم مخترعها الضابط الآلماني الهتليري (هانس جاكوار).
– 16 مارس 1987 حصل النظام من مخابرات دولة شقيقة على تقرير أمني عن خريطة الحركات السياسية داخل الجيش، يمثل فيه الزنوج الرقم القياسي 700 عنصر (بتنظيم 500)، ثم الناصريون 400 عنصر بدون تنظيم، فالبعثيون 150 عنصر بتنظيم خيطي.
– 16 مارس 1990، الأمن يكشف ارتباطا مشبوها بين أعضاء في اللجنة العسكرية وملحق عسكري بسفارة غربية، فٱلت التحريات -لاحقا- إلى تنحية العقداء (ولد عال انجاي، ولد سيديا، جبريل).
– 16 مارس 1989، مشاجرة بين فلاح ومُنَمِِ تسببت في أحداث رمضان/ابريل 1989 بين الجارتين وبين الشعبين.
– 16 مارس 1997، تفاهم ثلاثي، يتضمن التزاما صهيو/أمريكيا بالتخلي عن دعم (فلام)، ووعدا موريتانيا بالتطبيع، وقطع العلاقة مع العراق.
– 16 مارس 2017 وفاة العقيد فياه المعيوف، الذي كان مقررا أن يتولى رئاسة الحكومة لو نجح انقلاب 16 مارس 1981.
– 16 مارس 2019 وفاة العقيد محمد محمود ول احمد لولي الذي كان مقررا -ايضا- أن يكون رئيسا شرفيا للدولة لو نجح انقلاب 16 مارس 1981.
قبل الحديث عن انقلاب 16 مارس 1981 ينبغي وضع المتلقي في الصورة المتعددة الأبعاد للمشهد السياسي والامني، ففي ظل انقلاب ال 10 يوليو 1987 شهدت البلاد تطورات مزلزلة منها:-
– ١- انقلاب (ثان) موازِِ ضُحى ال10 يوليو نفسه ضد البعثيين الذين هم أهم شركاء العملية، ليتم إبعاد المرحوم جدو ولد السالك عن الموقع الأول في اللجنة والدولة، بعد سابق تعهد من 11 ضابطا (7 مقدمين و 4 رواد) بالتنازل لصالحه عن امتياز الرتبة، ثم أشفعوا ذلك بحرمان المعني من قيادة الأركان، إمعانا في تصفية البعث من دائرة الحكم.
-٢- حملة اعتقالات في الأشهر الأولى لل 10 يوليو استهدفت ضباطا من بينهم أحد أعضاء اللجنة بشبهة انقلاب (ثالث) بإيعاز من ليبيا، وهم النقيب احمد فال لمرابط، الملازم أول مولاي هاشم، الملازم أول ابريكه، وآخرين.
– ٣- بالتزامن مع تجاوز “فرية” الانقلاب الناصري تم التخلص من وزراء البعث قبل انصرام الفصل الأول من عمر لجنة الإنقاذ، في بيان حمل بعض الإساءة إلى المعنيين، ويقال إن الرئيس ولد ولاته كان مُجبرا على إزاحة رفاقه، لكن الله قدر ما شاء، فبإقالة الرائد جد سقط الدرع الذي كان يقي ولد ولاته من شر الذين كانوا يتآمرون عليه (وعلى جدو أيضا) داخل لجنة الإنقاذ.
– ٤- على غير المتوقع تفاجأ الجميع بانقلاب ال 6 أبريل 1979 بقيادة ضابط كان خارج لجنة الإنقاذ المقدم احمد ولد بو سيف، وهو ما يسميه كادير في مذكراته ب”الانقلاب الدستوري”، فتغير اسم اللجنة العسكرية من “الانقاذ” إلى “الخلاص” وأحيل المقدم ولد ولاته إلى رئاسة شرفية بلا صلاحيات، ورجح احتمال تغيرِِ واضح وحاد في التوجه وفي النظرة إلى الحكم، وفي الموقف إزاء الوضع الإقليمي، وبذلك انقسمت اللجنة إلى جناحين..الأمر الذي أوحى بأن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن بغض الضباط، فآلت التجاذبات إلى سياقات لسنا بصدرها الآن.
– ٥ – في ال 27 مايو 1979 سقطت طائرة المرحوم بوسيف والوفد المرافق..سأتحدث لاحقا عن ذلك الحادث الأليم.. ما يهمني هنا أن الطريق أضحى سالكا لصعود هيداله وجناحه المناوئ لجناح بوسيف، بيد أنها ليست الا حلقة من سلسلة ادراماتيكية، لم يكن بوسيف ضحيتها وحده، بل اغتُصب المقعد الشرفي من ول ولاته وأجبر على الاستقالة، وافترى عليه زملاؤه – باعترافهم- بأنه استقال.
– ٦ – توقيع النظام على اتفاق 05 آب 1979 لنقل تيرس الغربية إلى الإدارة الأممية، وهو ما اعتبره البعض تنازلا عن الإقليم فاجتاحته المغرب عسكريا، وطردت الإدارة الموريتانية.. فكانت النتيجة ثلاثية الأثر: خسرت موريتانيا أرضا، وخسرت البوليساريو أملا، وربحت المغرب أرضا واستعادت أملا..باستثناء (لكويرة) التي يرى السيد دفالي ولد الشين ضرورة احتفاظ موريتانيا بها لأهميتها الجيو استراتيجية.
– ٧- استمرار وتسارع عمليات “تطهير” المسرح العسكري من خيرة الضباط، بعد بوسيف، وانجاي، وولد ولاته، فاضطر البعض إلى الانشقاق (كادير، ثم ولد سيدي)، وخلا الجو من جدو ولد السالك، وأحيل ولد المعيوف إلى التقاعد، وعلى الفور فهِمَ ولد أحمد لولي اللعبة فانسحب بهدوء يوم 04 يناير 1980 لئلا يلحق بالمغضوب عليهم، فيموت في حادث سير (جوي او بري) أو يطرد او يسجن.
– ٨ – بعد انفراد هيداله بالسلطة بالغ في الارتماء في أحضان سندي البوليساريو (الجزائر وليبيا)..وبذلك تكدر صفو المناخ الإقليمي.
– ٩- اندلاع أزمة من نوع خاص داخل اللجنة العسكرية بدأت بتصريحات غير مُرضية لأحد الأعضاء بأن ضباط “جهته” خريجو القسم الأوروبي ل”سين سير”، فتم تأويل ذلك على وجه الاستعلاء.. ولم تنته الأزمة الا ب”اجتثاث” أغلب المعنيين، لوضع حد للصراع الجهوي داخل اللجنة (حسب رأي هيداله)، وممن راح ضحية لذلك العقيد أحمدو ولد عبد الله.
تلك محاولة لإعادة رسم التطورات على الخريطة من (وإلى ما بعد) ال10 يوليو.
من البديهي أن المحاولة الانقلابية 16 مارس 1981 تستمد خلفيتها من الخلاف السياسي – عقب مقتل بوسيف – بين نظام هيداله وبين اليمين الكادحي، حين آثر النظام أن يٌوَليّ وجهه شطر يسار الكادحين (الحركة الوطنية الديموقراطية mnd) المجيدة، .. وانقلابيو 16 مارس هم الجناح العسكري ليمين الكادحين الذي “كفر” بالعقيدة الماوية و”ٱمن” ب(ميثاق مريم داداه)، وللأسف كان ذلك التحول ردة عارمة في صفوف اليسار الموريتاني، وقد أطلق على “المتحولين” وقتها اسم “الميثاقيين” لتبنِّيهم لميثاق الحوار الوطني 1975، إيذانا بخروجهم من عباءة الحركة الأم (mnd)، والانضواء تحت لواء الحزب الحاكم،.. وبموجب إعادة التشَكُّل التنظيمي -فيما بعدُ- اتخذ اليمين اسم “التحالف من أجل موريتانيا ديموقراطية amd” ليَشرُع – من المنفى – في معارضة النظام.
كانت الظروف السياسية مهيأة لاحتضان المغرب لهجرة المغاضبين لأسباب من بينها أنهم خصم لحليف البوليساريو، ولكن توقيت الانقلاب لم يكن موفقا لاعتبارين:
الإعتبار الأول: أن الجبهة الداخلية متماسكة، تشهد أوج الوئام الموقت بين النظام الذي يعيش عهده الذهبي وبين بعض الحركات الأيديولوجية (Mnd، البعث، الإخوان، وفي الموقف الناصري التباس)، وبشكل عام فالنظام في وضع أمني مريح بعد تخلصه من أنداده في الجيش موتا وإقالة (العقداء: بوسيف، ولد ولاته، ولد احمد لولي، كادير، ولد سيدي، ولد المعيوف، الرائد الطيار جنك)، وكان ٱخر من “يجب” التخلص منه الرائد جدو ولد السالك، ثم الرائد أبوه ولد العلوم والنقيب محمد فال ولد لمرابط اللذين أرجئ لهما في أجليهما، ليختار لهما القدر رحلة جوية 1983 “مماثلة” الى العالم الٱخر، تماما على منوال الرحلة الجوية التي “وَدَّع بها رفاق السلاح زميليهما المقدم بوسيف والرائد انجاي في يوم شؤم ونحس (27 مايو 1979).
الإعتبار الثاني هو اختلال التنسيق بين شركاء الانقلاب، فالخلية التي يقودها النقيب ابراهيم ولد جدو انقطعت صلتها بالتنظيم بسبب إصابة عنصر الارتباط (المدني) في حادث سير، فلم تكن الخلية على دراية بتوقيت العملية إلى أن فوجئ قائدها برفاقه يقتحمون مكتب قائد الاركان معاوية، الذي كان بالصدفه معه في المكتب وقد جُرح النقيب ابراهيم أثناء الاشتباكات، إلى أن أسرعت به “الأقدار” إلى المصير المحتوم – حيث أريد له- في ظرف مُريب لكنه مفهوم، فلو أدركه التحقيق حيا لتوسعت دائرة الإعتقال، كذلك لم تتهيأ الفرصة لتعبئة وتسليح 40 مقاتلا التزم العقيد فياه ولد المعيوف بمشاركتها تحت قيادته.
أثناء التحضير للانقلاب اتصلت القيادة السياسية ل (l’amd) عن طريق مبعوثها المدعو سيدنا عالي بالنقيب ابريكه ولد أمبارك قائد المنطقة العسكرية بروصو -قبل تحويله إلى ازويرات- لعرض المشاركة عليه، فكان رده من ثلاث نقاط: (لن أشارككم، لن أبلغ عنكم، لن تعبروا النهر ما دمت هنا). وكان وفيا بعهده بعدم الإبلاغ.. ولا غرو، فالوفاء خصلة أصيلة في لحراطين.
والواقع أن الفترة ما قبل دخول الكوماندوز الى موريتانيا شابها غموض يحول دون استبيان وجه الحكمة من هجوم اثني عشر شخصا فقط على نظام في عقر داره (!!) مع أن لهذه المخاطرة مثيلاتها، كعودة ول هيداله بعد عزله 1984 أملا في استرجاع عرش اختطفه “الذي عنده علم من الكتاب”، وكعودة ول حنن وول ميني 2004 برزمة رشاشات مخبأة في شاحنة لإسقاط نظام عجزت عن إسقاطه الدبابات.
ربما يكون مرد ذاك الغموض أن القيادة السياسية للحركة قصَّرت في وضع قائد العملية (كادير) في الصورة الكاملة عن مستوى التنسيق الذي كان إسناده للمدنيين خطأ قاتلا، فيما طغى التهور والإستبداد على سلوك القائد حين تبين له فشل التنسيق وهو لمَّا يزل على الضفة اليسرى، بسبب انقطاع الصلة بين الشركاء السياسيين والعسكريين، باستثناء حالة السيد حابه ولد محمد فال الموكول إليه توفير 12 رشاشا و5 مسدسات و12 زيا عسكريا، وباستثناء عناصر ربط استقبلوا الوافدين على الضفة اليمنى ليسلموهم سيارتي لاندروفير بطلاء عسكري.
ولكم كان من الحكمة أن يعتبر (القائد) ٱراء رفاقه في التريث والانتظار على الأرض السينغالية إلى حين إعادة ربط الاتصال بخلايا انواكشوط، وحضور منسقِيها الى خيام السيد حابه في قرية ليشاتور.. بيد أن هاجس الاستعجال تغلب على رَوْع الحكمة…
لو نجح الانقلاب لتشكلت مراكز القيادة في النظام الجديد على النحو التالي:
المقدم محمد محمود ولد أحمد لولي رئيسا شرفيا للدولة..كما كان قبلُ.
– العقيد محمد ولد ابّه ولد عبد القادر رئيسا للجنة العسكرية.
– العقيد المتقاعد فياه ولد المعيوف رئيسا للحكومة.
كانت تشكلة الكوماندوز من 12 شخصا هم العقيد محمد ولد ابه ولد عبد القادر(كادير)، العقيد سالم ولد سيد، الملازمان انيانك مصطفى، دودوسك، ابراهيم ولد اعل ولد امحيديد، يعقوب ولد اتفغ العالم، ابراهيم فال ولد عيدلها، الداه ولد محمد لعبيد، اسماعيل ولد محمدو، احمد ولد انديات، حضر العشرة بينما تخلف اثنان هما سيدنا عال تونكارا (بامر من كادير لأسباب صحية) و با ٱمدو (اعتقله الامن الفرنسي في طريقه الى دكار)..العشرة دخلوا صبيحة ال 16 مارس مباني الرئاسة والاركان دون مقاومة، ولا داعي لرسم تفاصيل المشهد الذي انتهى باعتقال تسعة في حين نجا العاشر وانسحب متخفيا في أزياء مدنية انتزعها من زائر وجده في الرئاسة بمكتب المرحوم ولد ابريد الليل.
ومن الراجح أن هيداله قد علم في الساعات الأولى لذلك اليوم بالهجوم الوشيك، ربما دون تحديد لمساره، فاستقل مروحية عسكرية فجرا إلى اطار، ثم إلى ازويرات ضُحى، ليستقبله النقيب ايريك قائد المنطقة العسكرية ويخبره بسقوط العاصمة، فاستأنفت المروحية رحلتها إلى بير ام اكرين، ثم طلبت الاتصال بالجزائز فتعذر فنيا، ثم بدولة مالي التي اعتذرت، فعادت أدراجها الى ازويرات، ليبقى الرئيس خارج المدينة في ضيافة زميله النقيب ابريكه ساعات قبل وصول الخبر بإفشال المحاولة واعتقال منفذيها.
ابتداءا من ظهيرة ذلك اليوم إلى عاشت انواكشوط تحت السيطرة الكاملة -دون منازع- للجناح العسكري للبعث بقيادة الضابط المختار ولدالسالك الذي أبلغ رفاقه الضباط بأنه سيعتقل هيدالة فور وصوله المطار، ويذيع بيان استيلاء البعث على الحكم في البلاد، إلا أن القيادة السياسية اعترضت، وأصرت على الرفض، وبعد نقاش مكثف امتثل المختار -على مضص- لقرار القيادة، وتحمل عبء إقناع الضباط بالانصياع لتعليمات القيادة السياسية، بالتخلي عن القرار انسجاما مع واجبات الانضباط الحزبي، حتى ولو كانت المآلات المحتملة سيئة.
في الواقع لا أدري خلفية اعتراض القيادة السياسية، بسبب ما حصل لديَّ منذ عقود من التضارب في التأويلات.
ومما يدل على إحكام السيطرة حالة الاطمئنان التي وفرت وأتاحت – في فضاء زماني/ مكاني – انسيابية التواصل المرن بين العسكريين والسياسيين، لنقاش قرار يجمع بين الأهمية والخطورة.
أخيرا تغلبت رؤية القيادة السياسية فمات المشروع العسكري، تحت وطأة الشرعية التنظيمية.. غير أن بعضا من مدنيي البعث من الكادر المتقدم كان يدعم بحماس رأي الجناح العسكري، مثل السيد دفالي ولد الشين، وهو من الذين يرون أن التاريخ أثبت صوابية التحرك العسكري، وأن الأمة خسرت فرصة قد لا تتكرر.
تبدو ثمة أسئة -ربما- راودت أطر البعث منذ منتصف السبعينات هي: هل هم قادرون على استلام الحكم ؟ هل هم مستعدون؟ هل هم مهيؤون لذلك؟
السؤال الأول أجاب عليه الجناح العسكري عمليا ب(نعم) والسؤالان الآخران خضعت الإجابة عليهما لاجتهادات السلطة التقديرية للقيادة السياسية، فكانت الإجابة ب(لا)..للأسف.
وبذلك فشَل انقلابان في يوم واحد ضد نظام هيداله.
لنعد إلى انقلاب 16 مارس (الأول)..
أحيل الانقلابيون إلى محكمة العدل الخاصة برئاسة العقيد الشيخ ولد بيده، فأصدرت أحكاما بالاعدام في حق أربعة وبمٌدد سجن طويلة في حق الباقين، كما شملت الإدانة العشرات خارج الوطن.
وعلى خلفية ذلك تم اعتقال بعض الشخصيات مثل الوزيرين السابقين الاستاذ محمذن ولد باباه والدبلوماسي الدولي أحمدو ولد عبد الله ، ورجل الأعمال بمب ولد سيد بادي وغيرهم كثير..
أحكام الإعدام عٌرضت على اللجنة العسكرية في تشكيلتها الموسعة (بما فيها قادة المناطق) للتصويت عليها فكانت الأكثرية ضد الإعدام خاصة مولاي هاشم وولد لكحل وولد أمبارك، فاستٌعيض باجتماع في اليوم الموالي خاص بالتشكيلة الضيقة (اللجنة الدائمة) حيث صوتت بأغلبية الحاضرين على تنفيذ الاعدام.
من الوقائع التي فاتت ملاحظتها على الرئيس هيداله أن أعضاء اللجنة المتحمسين للإعدام كانوا ضالعين في التآمر ضده، ولا يخدمهم الابقاء على حياة “الشهود”، فلم يلاحظ أن الحماس الزائد قرينة ضد أصحابه، غير أن ضعف الحس الأمني كان رحمة للمخالفين.
كانت تلك أسوأ محاكمة في التاريخ، فالضابط دودو سك حوكم غيابيا ولم يستمع إليه (حق الرد على التهمة) رغم أنه في قبضة القضاء ورهن الاحتجاز الأمني والطبي في المستشفى.. ومع ذلك نُفذ فيه حكم إعدام غيابي دون الاعذار الشرعي اليه.. والعياذ بالله.
في الليلة السابقة على الإعدام طلب العقيد احمد سالم ورقة وقلما، فناوله إياهما (خفية) الضابط وداد ولد اسويدات (نجل المرحوم اسويدات)، فشطَر الورقة الى نصفين كتب فيهما وصيتين إلى زوجته وأخيه..نص الوصيتين متداول.
للتذكير فإن المرحوم كادير كان قد حُكم عليه غيابيا بالاعدام في جلسة عقدتها محكمة العدل الخاصة بروصو سنة 1980.
ومن المفارقات أنه عُثر (بعدُ) في مذكرات كادير أنه التقى في باريس يوم 1 مارس بزوجة أحد أهم معاوني هيداله، وحمَّلها رسالة منه إلى زوجها،.. كان هذا الضابط متحمسا للإعدام (ومصابلو) فلو انكشف أمر الرسالة لراح إلى السجن هو والزوجة والأبناء والأقارب..!
إثر الحكم بالاعدام توافدت رسل الوساطة على ولد هيداله من ملوك ورؤساء العالم ابتغاء العدول عن تنفيذ الحكم فأصر على الرفض، ولما علم بوصول السيد طه ياسين رمضان مبعوثا من صدام حسين لذات الغرض بادر إلى التنفيذ ساعات قبيل استقبال الضيف الكريم لقطع السبيل أمام شفاعة صدام حسين، ومن المؤكد أن هيداله يومها لا يشعر بالرضا عن العراق، على خلفية الاعتقاد السائد لدى البوليساريو بالدعم العسكري والسياسي للمغرب، وللأمانة فإن الموقف العراقي الرافض للاعتراف بالدولة الصحراوية ليس سياسيا، (تمكن مراجعته)، بل مبدئيا نابعا من اعتبار تعدد الكيانات العربية منافيا لفكرة (الوحدة القومية) التي لا تمثل هدفا سياسيا فحسب؛ وإنما مرتكزا مبدئيا وثابتا أيديولوجيا.
كذلك لم يعبأ هيداله بنصيحة الامام الاكبر بداه ولد البصيري.
لا يخفى أن أحداث 16 مارس عززت هاجس التفرد بالحكم لدى الرئيس، وعلى الرغم من حسن نيته فقد ضاق ذرعا بزملائه السابقين، فكان ميالا إلى محاسبتهم حتى على مجرد رأي او كلمة عابرة، فلم يسلم الرجل الخلوق الوديع الرئيس السابق المصطفى ولد ولاته من ظلمه عقابا له على كلمته المشهورة “أنا لست بالشخص الذي لا وطن له” فظن هيداله أنه يقصده طعنا في (موريتانيته).. كان جزاء هذه الكلمة سجن صاحبها ثلاث سنوات قابلة للزيادة لو لا انقلاب 12/ 12.. لم توجه وقتها أية تهمة للرئيس المصطفى ولا إلى رفاقه في السجن بحام ولد محمد الاغظف وسيد احمد ولد ابنيجاره، فعاشوا في جحيم زنزانات اجريده دون محاكمة.
أتذكر أنني أجريت حوارا صحفيا مع الرئيس المصطفى- بعد دارت الأيام- إذ سألته حول كلمته المشهورة تلك، فقال لي ” لنفترض أن جلال الطالباني ترأس العراق ثم تخلى عن (كردستان) كيف يبقى رئيسا للعراق؟”.. في إشارة للتنازل عن تيرس الغربية التي بها (بير أزران) مسقط رأس هيداله !!
وعلى مسار آخر انتهج الرجل سياسة التدرج في ضرب الحركات الأيديولوجية بدءا بالبعثيين ( أصدقاء الامس) بعد l’amd، فعاقبه القدر بالانتفاضة الناصرية 1984 التي أسقطته تداعياتها، تماما كما أفضت محاولات فرسان التغيير إلى إسقاط ولد الطائع.
وعلى افتراض أن المؤدلجين يجيدون “فن التوقع” إلا أن البعثيين لم يُحسنوا التقاط الاشارات الهيدالية، -أن لم نقل تجاهلوها – فالتحويلات التي أقدم عليه الرجل في ضباط الجناح العسكري لإبعادهم عن انواكشوط، واستدعاؤه لبعضهم وإنذاره إياهم بالتسريح، وتحذيره من الايديولوجيا داخل الجيش.. لهي إشارات ذات دلالة واضحة على أنه سوف (يتغدى) بهم قبل أن (يتعشوا) به.. فصدقت توقعات الضابط المختار ولد السالك.
…….
في الجانب الآخر ثمة نقاط جد مضيئة، فالرجل استفاد من زواج المتعة مع الحركات الأيديولوجية، فسجل له التاريخ منجزات خالدة منها: تطبيق الشريعة الإسلامية، بإيعاز من الاخوان (الجمعية الثقافية)، قرار إلغاء الرق، قرار تحرير المرأة، قانون الإصلاح العقاري، بإيعاز من حركة الحر وmnd والقوميين، للتنبيه فقد كان هاجس القضاء على العبودية العقارية وراء القانون العقاري، وقد استأثر الرفاق في الحركة الوطنية الديموقراطية بصياغة هذا القانون بعناية، وبمضامين كفيلة بتحقيق أهداف الحركة في محاربة الرق، فصدر القانون تحت رقم 127/ 1983، ولا شك أنه أعظم إنجاز اضطلعت به حركة او نظام إلى الآن بعد الأوقية والتأميم.
كذلك تجلت وطنية الرئيس هيداله جزاه الله خيرا في رفض الارتباط بمؤسسات النقد الدولية نتيجة استشارة موفقة من mnd، وضغط موفق من الناصريين.
يحسب للرئيس هيداله – وشهادة الجميع- بالتدين (ومن شهد له مسلمان وجبت له الجنة)، وبالورع والتعفف عن المال العام كما شأن جيله من الضباط.. وبالتأكيد فإن ضباط الأمس ليسوا كضباط اليوم.
رحم الله من قضوا نحبهم واطال عمر الرئيس هيداله، وجزى الله الجميع خيرا، فلكل منهم نصيب من الحُسنى.. فللمجتهد المصيب أجران وللمخطئ أجر الاجتهاد.