هذه سانحة لمن له صلة بى، أيّا كانت، قرابة، مودة، جميل… من أجل أن يوّاسينى، ويسلينى، ويشفق لحالى… وهي سانحة كذلك لمن يعادينى، فهذه فرصته للتَشفّى، فقد رقّت طبقة الصبر عندى فتضعضعت… لقد تجلّدت كثيرا لروعات الدهر وزلازله الماضية، لأنى أُعْمل وصية أبو ذؤيب الهذلى:
وتجلّدى للشّامتين أريهم أنّى لريب الدهر لا أتضعضع.
لكن انتقال والدنا الشيخ ولد محمد محمود ولد انداه إلى رحمة الله تعالى فاق قدرتى على التجلّد والصّبر، فانهدّ الركنُ المنيع المكين الذى كان يحمينا، “ولا بد للمصدور من نفثة”:
لَكِنَّـهـا نَفـثَـةَ مَـصــدورٍ إِذا جاشَ لُغـامٌ مِـن نَواحيهـا عمـى
وقد ألْفيتُها – النفثة – نماذجَ على عجل من مناقبه، رحمه الله تعالى، ومكان القول فيها متسع :
وقد وجدتُ مكان القول ذا سعة فإن وجدتَ لسانا قائلا فقل.
لقد ذهب بذهابه البِر، فقد كان براًّ بوالديه وبالأقربين، وبالناس أجمعين، فكان يوصى نفسه ويوصينا، ذكرانا وإناثا بذلك، مردِّدا فى كل مرة، لا تنى له عزيمة فى ذلك، ولا تفتُر له همة، ولا تفلّ له إرادة عند كل بادرة بِرٍّ:
واجبر خواطر الورى جميعا بغير منهي ولو وضيعا.
وهذا البيت باكورة محفوظات العائلة، يردد هذا البيت على مسامعنا، وهو الشاعر المفلق، الأديب، الأريب، المبين الذى يحزُّ فى المفصل، غير أنه كان عفيف اللسان، طاهر الجنان، أذكر من أعمال بره رحمه الله تعالى أنه هو وأهله تأخروا عن العودة إلى مدينة كرو، وأطناب خيمتهم مضروبة على جنبات المعْلم المعروف ب”طلحاية أولاد خالى” الخاص به وبوالده وفصيلته من أولاد إبراهيم، أولاد خالى، على ضفاف وادى النخيل، وكنت قادما لتوى من نواكشوط، وكنت قد تعودت أن أكون بجانبه أيام الأعياد، وصادف ذلك اليوم عيد الأضحى، وأتيته كعادتى بأضحية، وكان رحمه الله تعالى يغالى فى الملبس وهو فى مُـقـتبل العمر، وحباه الله بالسعة فى المال، وورِث السّعة من أبيه، كان يهتم بالهندام مصداقا لقول ولد احمد يوره:
وحبّ بنى جاكان للزرع والأتا وجلابة الشتاء وزيِّ المحافل
ولكنه فى النصف الثانى من عمره توشّح بوشاح الزهد، كعادة وديدن الصالحين، فبدا لى بثوب خَلِقٍ، وكنت ممن يغالى في الملابس مثله – شنشنة أعرفها من أخزم – خاصة الدراعة، فأعطيته دراعتى التى كنت أفتخر بها فلبسها، فاكتحلت عيناي برؤيته يلبسها، وكان رحمه الله تعالى وقورا، وفى اليوم الموالى من أيام التّشريق، كان يرفل فيها صديق حميم له فى جوف السوق الكبير بكرو، وآب إلى ثوبه الخَلِق، وهذه عادته – كذلك – فى الأقلام والجلود (آلواويش)، والعطور، التى كنت أهديها له فى المناسبات، وأذكر هنا أنه كان مولعا بالعطور، حتى أن عمته وعمة والدتى، رحم الله الجميع، كانت بها حساسية من العطر وعندما يتضوع عطره تقول “ريحة الشيخ” فريحة الشيخ هذه، كناية عندها للعطر :
لكل امرئ من دهره ما تعوّدا وعادة سيف الدولة الطعن فى العدى
وكان يُخرج فَطرتى، حتى وأنا فى هذه المرحلة من العمر، وقد تعهد بإخراجها عن ولدى الوحيد، وحين تقدم به العمر، رحمه الله تعالى، أوْكل إخراجهما، مع واجباته الدنيوية، إلى أسرته… وأول إخراج لفطرتى، أنا وولدى، إذا نُسئ لى في العمر، سيكون فى عيد الفطر المقبل، إن شاء الله.
لقد كان حبه لى يفوق الوصف، وبذل، رحمه الله تعالى، ما فى الوسع من أجل أن أكون على شأو الآمال العريضة التى كان يعلق علي، أذكر على سبيل المثال أنه، رحمه الله تعالى، حين علم أنى أُدْخلت المدرسة النظامية، وهو فى جمهورية الكونكو، سافر إلى موريتانيا واستعان بصديقه النافذ، نور انجاي، رحمه الله تعالى، واعتمده وسيطا لوزير التعليم ساعتها، محمدن ولد باباه، من أجل فصلى من المدرسة، وصحبنى إلى شيخه محمّدُ ولد البنيه (حنّم)، رحمه الله تعالى، فى قرية بامّيره، بضواحى بلدية كامور، ودرست في محظرته سنوات عدة، وكانت هذه الدراسة هي عماد تحصيلى المحظرى، ولم يكن، رحمه الله تعالى، يكترث لميولى السياسي داخل المجتمع بمدينة كرو، فقد انتميت لكلا الطائفتين بالمدينة (اللائحة الصفراء واللائحة الخضراء)، آخذا، رحمه الله تعالى، مسافة واحدة من كلتيهما، وكلتاهما تحترمه وتُـقدّره، رغم مواقفهما منى فى الحالين.
ومن أعمال بِرِّه أنه كان لا يخص بالمبالغ المالية التى كان يبعث بها من دول إفريقيا، التى كان يتاجر بها، لا يخص بها أهله الأدنون، وإنما كان يُعمّـمها، لتصل شيخه المشهور، وقد أهدى لكل ابن أخت له (سواء كان من أسرته الضيقة، أو من مجموعته) جملا، وكان ساعتها كمن أهدى سيارة فارهة الآن، وأذكر، وأنا يافع، فى الكتاتيب، أنه كان يعمم القماش المطوى المعروف عندنا ب”المخزومه” على الذكور – الشكه – وعلى الإناث – النسور – وقد جعلني أرْنبة أنف فى رُسُلِه، حاملا معى مخزومه وبيصه لكل أسرة من مجموعته التى ينتمى إليها، وكأن الشاعر عناه حين قال:
وجدت خصال الخير فى الناس فرقت وقد جُمِعت فيه الخصال المفرّقة.
وقد كان، رحمه الله تعالى، ينحر زمن الشتاء، ويُشرّق اللحم، ويوزعها، (وإن صخرا إذا نشتو لنحّار)… وقد أنبط بئرين فى المكانين المعهودين لمجموعته (كرو المدينة، وواحة النخيل) وقد جعلهما وقفا لله تعالى، واتفق أن كان ماؤهما عذبا فراتا، وكأن لسان الشاعر يتمثل بهما قائلا:
(…فالمنهل العذب بعد الوِرْد مورود.)
لقد ذهب بذهابه الإيثار، حدثنى، وأنا يافع، فى مرحلة الكتاتيب، حين آب من سفره إلى دول إفريقيا، غانما، رابحا ربحا يؤرّخ به فى وسطه ومدينته، مثل تأريخنا بعودة صالح ولد عبد الوهاب وعودة البيضاوى (امج الباشا لاهل أيّه) (وامج الشيخ ولد محمد محمود)، حدثنى قائلا إنه لن يشيّد منزلا من الخرسانة المسلحة وأولاد خالى (مجموعته) بيوتهم من القَشِّ والطين، وكان، رحمه الله تعالى، آخر من شيد منزلا من الخرسانة من مجموعته، سنة 2005م، حين عمّ هذا الطراز من العمران على عموم المجموعة فى مدينة كرو، واستثنى من منزله القديم غرفة من القش والطين أشرت عليه، رحمه الله تعالى، أن يحتفظ لنا به، تيمّنا بعادة السوريين الأصلاء فى مدينة دمشق، تمييزا لهم عن الدخلاء، فقد كانوا يبقون على المنزل القديم سمة للأصالة والمجد الأثيل، ومازالت الغرفة قائمة تلوح للزائر عند المدخل وقد غمرتنى لوعة من الأسى، وأنا أدلف إلى المنزل، مواصلا السفر من مسقط، لاحت لى الغرفة، فانهدّ الرّكن المنيع، المكين، الذى كنت أعيش فى كنفه…
وأطرف من ذلك وأمعن فى الإيثار أن أبناء عمومته وخؤولته، العلماء الأجلاء، الفضلاء، أهل أيّه، فى بلدية لبْحير، (بحير الصّفو… ووجنة الشمس…) طلبت منهم جماعة دعمه السياسى، خاصة من الوادى الذى به جزء من مجموعته (بَـــدْ لحمار)، على مقربة من البلدية، فقام بدعم الطائفتين بالأصوات وتبعاتها، لا فرق عنده بين الطائفتين، فكسب بذلك احترامهما وتقديرهما، هذا دأبه وهذا مَــهْيعه…
لقد ذهب بذهابه الكرم، كان مضْرب الأمثال فى مجموعته وقبيلته، والإجماع منعقد عليه فى ذلك، فقد كان محمد محمود ولد عبد القادر رحمه الله تعالى، يدعوه معن، وكذلك الزهراء بنت محمد المصطفى رحمها الله تعالى، وحين انعقد مجلس العزاء، وكان الناجى ولد داهى يتحدث عن مناقبه أمام الملأ، ويتساءل، فى أي موقع من المدافن عندنا دُفن، رحمه الله تعالى، أجابه محمد محمود ولد محمد فاضل، دُفن فى “صالحين كرو” بين جمع من أهله، لا أستثنى منهم أحدا، كل واحد منهم وصله بمعروف فى حياته، وحدثت شقيقته أم الخير بنت محمد فاضل، فى جمع غفير من النسوة، ينتظرن فى الساحة العمومية، المعهودة لصلاة العيدين والاستسقاء، ينتظرن وصول جثمانه الطاهر من مستشفى كيفه، فخاطبت أم الخير إحداهن كانت تستحثّ الحضور على ذكر محاسنه، حدّثت قالت إن الشيخ رحمه الله تعالى، وزّع على نساء مجموعته ملاحف عمّمها، فاشتهرت حتى عرفت بوسم “إسَلّمْ الشيخ”، وكأنها علامة تجارية… وحدثنى ابن عمى وابن خالى الذى أفتخر به وأباهى، مولاي ولد عبد الدائم ولد انداه، إمام بمدينة العين، الإمارات العربية المتحدة، قال لى إنه حدثه الأديب الشاعر الدكتور محمد ولد عبدى، رحمه الله تعالى، إن امرأة كانت مسافرة مع مجموعة من الرجال، وأنهم تناولوا طعامهم دونها فقال “هذو بعد ما امعاهم الشيخ ولد محمد محمود”، وأنه واصل الحديث قائلا إن الشيخ تناهى إلى علمه هذا الأثر، والحديث للشاعر المرحوم، فطلب منه أن يأتيه وحباه بأعطية مشهودة.
وكان رحمه الله تعالى يهشِّم الخبز للناس، ويجهز لهم الغداء والعشاء ويصنع الحساء بيمناه الطاهرة، ويمزج بها زيت الزيتون كذلك للناس، وكان، رحمه الله تعالى، لذلك، محجة التجار والطلاب والمرضى، ويدعو الجفلى، وكأنه يتمثل بيت الشاعر طرفة بن العبد:
نحن فى المشتاة ندعوا الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر.
لقد ذهبت بذهابه الأريحية، كان رحمه الله تعالى، فى كل أوجه بذله وعطائه، الذى لا يخشى صاحبه الفقر، يتوخّى جعل جليسه فى حالة حبور، متهلِّل الوجه، باسم الثغر، متحدثا بالطرفة والدعابة.
لقد ورثنا منه، رحمه الله تعالى، الأذكار فى الأسحار، والدعاء، فى العشي والأبكار، وقد حفظنا جلها، وكان شديد الحرص على تأصيلها. لقد ورثنا عنه، رحمه الله تعالى، تركة من شقّين أولهما يملؤنا زهوا، وذلك بأننا نُــنْمى إليه (انتَ امّالك ال ولد الشيخ ولد محمد محمود)، (وانتِ امّالك ال منت الشيخ ولد محمد محمود)، حدثتنى بذلك أختى الفاضلة الماجدة، ميمونة بنت الشيخ ولد محمد محمود، أما الشِّق الثانى من التركة، فهو الدور الذى كان يقوم به، والخلّة التى كان يسدّها والبرّ الذى يقوم به للكل، والمعروف الذى يُسْدى، وبالجملة صنائعه البيض، كل ذلك لا قبل لنا بالقيام بأعبائه، ننوء بحمله، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وقديما قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح.
وقد كانت عائشة رضي الله عنها تتمثل ببيت لبيد، وتسأل اللطف للأجيال التي تلى عصرها، وتقول: (رحم الله لبيدا كيف لو أدرك زماننا هذا).
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت فى خَــلْفٍ كجلد الأجرب.
وختاما لا أقول إلا ما يرضى ربنا جلّ فى عُـلاه.
{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
31