شهد العقد الذي أعقب موجة الثورات العربية حالة من عدم الاستقرار الحاد، لم تشمل فقط الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية، بل أيضا منظومة القيم والمعتقدات الدينية في المجتمعات العربية، خصوصا لدى الأجيال الشابة، فقد أفادت عدة بحوث مسحية واستطلاعات للرأي أن نسب التدين في المنطقة شهدت تراجعا ملحوظا خلال هذا العقد، وإن اختلفت هذه النسب باختلاف الدول والشرائح العمرية. وهذا الاضطراب يعكس أزمة حقيقة في الخطاب الدعوي وفي العلاقة بين الديني والسياسي والمجتمعي سواء تمثل هذا الديني في المؤسسات العلمائية الرسمية، أو في الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية، أو في آحاد الدعاة والوعاظ.
ويمكن تتبع بداية موجة التراجع هذه خلال فترة الثورات العربية ذاتها، إذ شهدت المراحل الانتقالية في عدة دول استقطابات سياسية حادة، سواء بين القوى والأحزاب الإسلامية السياسية والقوى العلمانية أو بين فصائل القوى الإسلامية، وهي الصراعات التي أدت إلى استنزاف الرصيد المجتمعي لهذه الحركات، وكذلك تسببت في استنزاف المكانة الأدبية لبعض العلماء والدعاة، الذين انخرطوا بشكل غير منضبط في هذه الصراعات، وانحازوا بلا تحفظ لبعض القوى والأحزاب السياسية، أو بعض الحكومات والأنظمة القائمة، وتورطوا في الدفاع عن سياساتهم التي لم تكن محل قبول.
ثم تفاقمت هذه الأزمة بعد تعثر هذه الثورات، وصعود السلطويات من جديد في المنطقة العربية، والتي بات صراعها الأساسي مع الحركات الإسلامية السياسية، فسعت جاهدة إلى إعادة السيطرة على المجالين السياسي والديني، وتحجيم مسارات العمل الدعوي، عن طريق دعم هيمنة المؤسسات الدينية الرسمية على النشاط الدعوي، ثم هيمنة هذه النظم السياسة على المؤسسات الدينية، بحيث يتم توظيف الخطاب الديني بما يحقق مصالح وأجندات هذه الأنظمة المستبدة.
التكنولوجيا الرقمية وما ارتبط بها من طفرة في مجال الاتصال صارت تشكل تحديا هاما للخطاب الدعوي، فعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا تتيح فرصة جيدة للدعاة للتواصل مع قطاعات واسعة من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها على الجانب الأخر، لها عدة أوجه سلبية.
نتيجة لكلا العاملين، بدأ الرواج والإقبال على بعض الأنماط الدعوية الانعزالية، والتي تقدم نفسها على أنها دعوات صوفية روحية، لكنها في الواقع تتبنى خطابا دعويا مختزلا، منعزلا عن الشأن العام، وتدعو لأفكار أقرب للخلاص الفردي، وتنزع عن الخطاب الدعوي أجندته الإصلاحية المجتمعية، وتعزله عن الحراك الإسلامي الاجتماعي والسياسي، وهو ما جعل هذا التوجه يلقى ترحيبا ودعما من عدد من هذه الأنظمة الحاكمة.
ثم يزداد الأمر تعقيدا مع وجود أنشطة ومبادرات روحانية غير دينية، وهذه مسألة جديدة نسبيا في مجتمعاتنا المسلمة، باعتبار أن الحاجة الروحية كانت دائما ما يتم تلبيتها عبر التدين النابع من المعتقدات والشعائر والقيم الإسلامية، لكن مؤخرا، أصبح هناك العديد من الأنشطة التي تحاول أن تقدم روحانيات غير دينية، مستقاة من بعض الثقافات والحضارات الأخرى، كالهندية أو الصينية ونحوهما، و أصبح هناك محاولة لملء الفراغ الروحي الذي تخلف عن تراجع النشاط الدعوي الإسلامي، أو تراجع الثقة به، نتيجة العوامل السابقة بأنشطة روحية كأنشطة اليوغا، ونحو ذلك من طقوس وممارسات شعائرية.
كما يجدر كذلك الالتفات إلى أن التكنولوجيا الرقمية وما ارتبط بها من طفرة في مجال الاتصال صارت تشكل تحديا هاما للخطاب الدعوي، فعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا تتيح فرصة جيدة للدعاة للتواصل مع قطاعات واسعة من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها على الجانب الأخر، لها عدة أوجه سلبية، يمكن أن نذكر منها مسألتين هامتين:
الأولى، هي تقديم الخطاب الدعوي بصورة أقرب إلى كونه خطابا ترفيهيا، فالخطاب الدعوي الذي يتم عبر وسائط تقليدية داخل المساجد، يتطلب استحضار وتهيئة روحانية، بالوضوء ثم التوجه إلى المسجد والجلوس في سكينة من أجل الاستماع إلى الموعظة أو الخطبة أو الدرس الديني، لكن هذا الأمر تحول مع وسائط التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه إلى مادة التسلية، إذ يتم تداولها وإرسالها وتلقيها في أي وقت وفي أي سياق، على تطبيقات الهواتف الذكية أو ضمن المقاطع المرئية المصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا أضعف من قيمة الموعظة الدينية وأضعف من تأثيرها في النفوس، فالشيوع يرخص من قيمة ما هو مبذول، وما يتم مشاركته على مدار الساعة دون استعداد أو تهيئة يتم تلقيه بدون اكتراث.
التحديات تتطلب مراجعة حقيقية سواء من المؤسسات العلمائية أو الحركات الإسلامية الإصلاحية لمحتوى خطابها الدعوي ومنهجيته ووسائطه.
السلبية الثانية مرتبطة بظهور ما يسمى بالدعاة المؤثرين “Influencers”، باعتبار أن مخاطبة الرأي العام بالأفكار الدينية أصبح لا يحتاج إلى توثيق من أحد الهيئات الدينية التعليمية أو حتى الحركات الوعظية والدعوية، بل أصبح متاحا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ارتبطت هذه الظاهرة في كثير من الأحيان بخطاب دعوي سطحي، يخضع إلى المعايير الخاصة بالانتشار على منصات التواصل الاجتماعي، وبأولوية التفاعل مع الموضوعات الطارئة “الـترند”، بشكل أضعف من قيمة وتأثير الخطاب الدعوى.
وبالمجمل، كان لهذه العوامل أثرها السلبي على فاعلية الأنشطة الدعوية، وعلى شيوع التدين وطبيعته داخل المجتمعات العربية، لذلك فإن هذه التحديات تتطلب مراجعة حقيقية سواء من المؤسسات العلمائية أو الحركات الإسلامية الإصلاحية لمحتوى خطابها الدعوي ومنهجيته ووسائطه، بما يحرره من التوظيف السياسي، ومن الشكلانية والتفريغ من المضمون، ومن قيود الرقمنة التي أضعفت من قيمته وتأثيره، وهو ما سنتناوله في التدوينة القادمة بإذن الله.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
محمد عفان \باحث في دراسات الشرق الأوسط