تناول المقال السابق بعض العوامل التي أظنها أسهمت في التراجع الملحوظ للخطاب الدعوي وتأثيره في المجتمعات العربية، مثل ارتهانه للأجندات السياسية المتنافسة، أو تقييده من قبل النظم الحاكمة المتسلطة، أو تفريغه من مضمونه باستبداله بأنماط من الروحانيات الانعزالية أو غير النمطية، أو ابتذاله عبر ظاهرة الدعاة “المؤثرين” والشيوع العشوائي عبر الوسائط الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي. وفي ضوء ذلك، يحتاج الخطاب الدعوي في حقبة ما بعد الثورات العربية إلى إعادة ضبط البوصلة، سواء في مضامينه، أو حتى في أساليبه ووسائط انتشاره، لكي يستعيد حيويته وتأثيره، ويتمكن من أداء أدواره المجتمعية المهمة.
الخطاب الدعوي يجب أن يلتفت إلى تداعيات الحياة في مجتمعات متعولمة، وهي الإشكالية الناتجة عن التواصل الكثيف والدائم بين المجتمعات المتباينة، افتراضيا أو حقيقيا.
فعلى سبيل المثال، أصبحت بعض القضايا الأولية تحتاج إلى التناول الجاد، بدلا من اعتبارها من المسلمات، وتجاوزها إلى قضايا أخرى ثانوية أو إشكالية، إذ يحتاج الخطاب الدعوي أن يلتفت إلى المسائل الفطرية، مثل قضايا المعنى والغاية، وأن الحياة ليست عبثا، ومثل قيم المسؤولية عن الأفعال، والعمران والإصلاح في الأرض، وأيضا مثل تعظيم الشعائر، وحرمة الفروض الدينية، ونحو ذلك من الأساسيات.
كما أن الخطاب الدعوي يجب أن يلتفت إلى تداعيات الحياة في مجتمعات متعولمة، وهي الإشكالية الناتجة عن التواصل الكثيف والدائم بين المجتمعات المتباينة، افتراضيا أو حقيقيا، واتساع مجال ووسائط تبادل الأفكار والاطلاع على الثقافات الأخرى، وبالتالي أصبح هناك انفتاح دائم على أنماط حياة وقيم مختلفة من الشرق والغرب، وهو -وإن كان له دور إيجابي في توسيع المدارك- إلا أنه بلا شك يسبب شيئا من ارتباك الوعي، وقد يغذي النزعة النسبية في رؤيتنا للقيم والأخلاق، باعتبار أنها ليست قائمة على أساس معياري رصين، بل على أسس التنشئة المجتمعية التي تتباين باختلاف السياقات، وبالتالي لا يوجد حق في ذاته أو باطل في ذاته، ولا يوجد صواب في ذاته أو خطأ في ذاته، بل كل ذلك يتحدد على أساس التوافقات المجتمعية، وعلى الرغم من أن التنشئة المجتمعية تلعب دورا أساسيا في ترشيد السلوك الاجتماعي ولا شك، إلا أن ذلك يجب ألا يقود إلى النسبية الأخلاقية، بل يجب أن يحرص الخطاب الدعوي على التأكيد على أن جوهر الأخلاق والقيم يعود إلى أشياء أكثر رسوخا، كالفطرة أو المرجعية المتجاوزة لهذا العالم، مرجعية الوحي.
ويرتبط بالاتصال بالمجتمعات الأخرى كذلك قضية أخرى هامة، هي المادية المفرطة والثقافة الاستهلاكية، والتي تعاظمت مؤخرا كإحدى سلبيات العالم الافتراضي، إذ أدى إغراق وسائل التواصل الاجتماعي في التسويق للكثير من السلع والخدمات الترفيهية، وانتشار التطبيقات التي يستعرض خلالها الأفراد لأنماط حياتهم المرفهة، إلى تحفيز السلوك الاستهلاكي المنفلت، وتعمق الشعور بالسخط وعدم الرضا وغياب الثقة بالنفس، كما تسبب في تحول سلبي لمفاهيم النجاح والكسب، إذ أصبحت قيمة النجاح مرتبطة بعدد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، كما ارتبط الكسب بالشهرة الكاذبة، وبالإثراء السريع من أنشطة ترفيه غير هادف، وغير منتج.
استغلال الخطاب الدعوي وما له من رمزية وقداسة دينية لتحقيق بعض المكاسب الانتخابية أو في دعم بعض السياسات أو القرارات الخلافية يضعف من مصداقية واحترام الخطاب الدعوي
وفي ظل هذه المادية الطاغية، نشأ نقيضها من الروحانيات الانعزالية، والروحانيات غير الدينية، تلك التي تحاول أن تهرب من ضغط المادة، ومن الجرعات الكثيفة من الترفيه والمتع الحسية إلى “الرياضات الروحية”، والتي تحاول أن تستعيض عن الاحتياجات الروحية بممارسة طقوس وشعائر غير دينية، متخففة من العقائد، ومن عبء التشريعات الاجتماعية والأخلاقية، وتستهدف الخلاص الفردي، وهو ما يتطلب من الدعاة أن يوازنوا في خطابهم بين الجوانب الروحية والتشريعات والالتزامات الدينية، وفي نفس الوقت تبني روحانيات متفاعلة مع المجتمع، توظف هذه الطاقة لربط الفرد بمجتمعه، وتعظيم أدواره الإصلاحية داخل هذا المجتمع.
وفي ظل هذه الروحانية المتفاعلة، يجب أن يكون الخطاب الدعوي حريصا في تعامله مع الشأن السياسي، فبالتأكيد على الدعاة واجب أساسي في توضيح أحكام الشرع في المسائل السياسية، لكن في نفس الوقت، فإن استغلال الخطاب الدعوي وما له من رمزية وقداسة دينية لتحقيق بعض المكاسب الانتخابية أو في دعم بعض السياسات أو القرارات الخلافية يضعف من مصداقية واحترام الخطاب الدعوي، وبالتالي يجب على الدعاة أن يحرصوا على ترشيد اشتباكهم في المسائل السياسية، والتحوط في الخلط بين انحيازاتهم السياسية والأحكام المتفق عليها، وألا يذهبوا إلى أن يصبحوا أداة للدعاية أو التسويق السياسي بما يفقد الوظيفة الدعوية والدينية رمزيتها ومصداقيتها داخل المجتمع.
وبإيجاز، فإننا في حاجة إلى خطاب دعوي يتبنى منظومة جديدة من القيم، تؤكد على أهمية المرجعية في مواجهة السيولة الأخلاقية، وتؤكد على أهمية الفطرة في مقابل النسبية المطلقة، وتؤكد على أهمية الواجب وأدائه في مواجهة الثقافة المبنية على الاستحقاق، ويعمل على تصحيح المفاهيم الخاصة بقيم النجاح والكسب في مواجهة هذه الموجة من النماذج السطحية للنجاح المبني على الشهرة الزائفة في وسائل التواصل الاجتماعي، والمبني على الكسب السريع غير المستحق، وغير المبني على السعي والإنتاج، كما يجب تغذية الروحانيات في عصر طغيان المادة والترفيه، لكنها يجب أن تكون تربية روحية إيجابية، وليست انعزالية أو سلبية، وفي نفس الوقت يجب التحوط لئلا تهدر هذه الطاقة الروحية في مسارات تفعيل خاطئة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
محمد عفان – باحث في دراسات الشرق الأوسط