أن نرى المواريث بمنظور أوسع يعني أن نراها في أفق عالمي يجمع في مشهد واحد أنظمة ميراث مقارنة، هكذا يمكن أن نرى بأعيننا كيف تشتغل تلك الأنظمة وتوزع المواريث في الواقع الحي، وكيف تفسر العدالة والمساواة والحريات وفق منظوراتها المختلفة وثقافاتها الخاصة، وكيف تقوم بتركيبات معقدة وموازنات دون أن تلتزم بمعيار تساوي الحصص بين الورثة ولا بين الذكور والإناث، بل تلتزم بمعايير العدالة والحرية بالمعنى الذي تفسره بها وبالطريقة التي تراها أكثر جدوى.
آدم وسوزان زوجان أنجبا ابنين وبنتين، توفيت سوزان بعد حياة طويلة عاشت فيها بثراء وتركت (مليون) يورو، كي نرى القانون بمنطقه الأصلي سنفترض أنه لا توجد ديون أو وصية أو هدايا أو أي حيثيات وشروط خاصة تؤثر على التوزيع المعتاد، النظام المالي المعتمد بين الزوجين نظام الأموال المشتركة (تقاسم الأموال المكتسبة بعد الزواج) وهو النظام الأساسي السائد في أغلب الدول، وليس هناك أموال منفصلة خاصة بالزوجة.
ذهب الورثة (زوج + ابنان + بنتان) إلى صالة المواريث العالمية فوجدوا عشرين طاولة ميراث، كل طاولة توزع حسب نظام وقواعد مختلفة، مثلا توزع أحد الطاولات حسب القانون الألماني، والأخرى حسب الفقه الحنفي الإسلامي. بدأ الورثة يدورون على الطاولات -وهم يحملون حقائبهم- لاكتشاف أي طاولة تمنح أكبر قدر من الحريات والإنصاف لأكبر عدد من الوارثين، في ذهن البنات سؤال يجول: أي طاولة أكثر عدالة وحرية اقتصادية للنساء؟
خارطة المواريث العالمية
نرى البنت الحنفية تضع في حقيبة ميراثها أكثر من البنت السويدية والإنكليزية والأميركية والأسترالية بعدة أضعاف، كما تأخذ أكثر من البنت الكندية والدانماركية واليابانية والصينية والإيرلندية والبرازيلية والبرتغالية، وتأخذ مثل البنت الألمانية والسويسرية، رغم أن حصة البنت الحنفية نصف حصة أخيها، وحصص البنات في الأنظمة الأخرى تساوي الذكور. في المقابل تأخذ الحنفية أقل من البنت الفرنسية والإيطالية والنمساوية والنرويجية والنيوزيلندية، أما البنت الروسية فإنها تأخذ أكثر من الجميع.
لتسهيل المقارنة سأضع النسب المئوية (%) التي يأخذها الورثة من التركة، مرتبة بحسب ميراث البنت من الأكثر للأقل ضمن الجدول التالي:
(في أميركا وأستراليا وكندا توجد عدة أنظمة ميراث داخل الدولة، تم اختيار النظام المعتمد في العاصمة أو أكبر الأقاليم، ولمعرفة حصة البنت الواحدة نقسم الرقم الموجود في الجدول على 2)
العبرة بنظام التوزيع لا بالمساواة والاختلاف
لدينا هنا نظامين؛ نظام اختلاف الحصص بين الابن والبنت وهو الذي ينتمي له الفقه الحنفي، ونظام المساواة الذي تنتمي له القوانين الأخرى، حتى نفهم ماذا تعني المساواة تنفيذيا نحتاج أن ننظر في النتائج الفعلية لتوزيع الميراث مقارنة مع أنظمة أخرى (كم تضع البنت في حقيبتها؟)، نظام مساواة الابن والبنت قد يعني تنفيذيا ألا تحصل البنت على أي شيء من الميراث وتكون مساوية لأخيها في الحرمان، كما هو القانون السويدي والأميركي والأسترالي، وقد يعني أن تأخذ البنت أكثر مما تأخذ في نظام الاختلاف، فالفرنسية تأخذ (17%) بينما الحنفية (12.5%).
ويعني نظام الاختلاف أن تأخذ البنت الحنفية حصة أكبر مما تأخذه البنت في كثير من أنظمة المساواة، فتأخذ البنت الحنفية (12.5%) بينما تأخذ الإنكليزية (5.7%) فقط، وقد يعني نظام الاختلاف أن تأخذ البنت حصة جيدة بينما تأخذ صفرا في أنظمة المساواة. معيار المساواة والاختلاف من أكثر المعايير ضلالة وخداعا، خاصة حين نستخدمه للمقارنة بين أنظمة متعددة، والمشكلة أن الاستخدام التقليدي له يقع وسط هذه اللعبة.
يبدأ الخداع حين نستدل بأن هذا النظام أفضل للنساء من ذاك لأنه يعطي الذكور والإناث مساواة وبالتالي فهو أكثر عدالة وتحريرا للنساء. يزداد الطين تبللا حين يؤكد بعضهم مثلاً أن القانون السويدي والأميركي في واشطن الذي يعطي البنت صفرا أفضل لها من القانون الحنفي الذي يعطي (12.5)، في الرسم التالي قوانين مقارنة توضح كيف يعطي نظام الاختلاف أكثر من أنظمة مساواة كثيرة.
حصة البنت
معيار المساواة والاختلاف مضلل ومخادع يفشل في إخبارنا بأي شيء حقيقي، لأن بنية المواريث العالمية لا تعمل وفقه، فمن الطبيعي في نظام “للذكر مثل حظ الأنثيين” أن تأخذ البنت حصة أكبر مما تأخذه في نظام “للذكر مثل الأنثى”، ومن الطبيعي أن تأخذ البنت في نظام “للذكر مثل الأنثى” حصة أقل مما تأخذه في نظام “للذكر مثل حظ الأنثيين”، ومن الطبيعي أيضاً أن تأخذ البنت في نظام مساواة معين حصة أكثر أو أقل مما تأخذه في نظام مساواة آخر، كل ذلك طبيعي لأن العبرة هي بنظام التوزيع ومنطقه وقواعده، وليس بمساواة الحصص وتفاوتها.
أعتقد أن المواريث نظام لتوزيع الحريات بطريقة منصفة تدفع لعمارة العالم والمستقبل، فالحريات حقوق وقدرات، والقدرة المالية من أهم أنواع القدرات، حين تأخذ المرأة حصة ميراث فإنها تأخذ حزمة حريات في الحقيقة، وحين تحصل على نفقة واجبة فإنها تحصل على حريات بقدرها، الذي ينشئ حرية المرأة الاقتصادية ويحدد مداها في هذا المجال هو حصة الميراث التي تحصل عليها والنفقات الاجتماعية الواجبة التي تستحقها.
لنتخيل الأمر على حقيقته، سنرى البنات نهضن من الطاولات الحنفية والسويسرية والألمانية قد وضعت كل واحدة في حقيبتها نفس المبلغ (125) ألف يورو، ونهضت البنت الإنكليزية تحمل في حقيبتها (57) ألف فقط، بينما نرى والدها قد امتلأت حقيبته (605) آلاف، ثم نشاهد الحكومة الإنكليزية تدخل وتنافس البنت على ميراث أمها وتأخذ أكثر منها بضعفين (167) ألف كضريبة الميراث. سنرى هناك من بعيد البنت السويدية نهضت بوجه أبيض شاحب وحقيبتها فارغة تماما، بينما يرتبك أبوها في حقيبته التي لم تعد تتسع لميراث المليون يورو، فقد منحه القانون السويدي كامل التركة واستبعد البنت.
تتفق القوانين الحنفية والسويسرية والألمانية على وجود حصة خاصة ثم تختلف بشدة فيمن سيأخذها، فيعطيها الألماني والسويسري للزوج بينما يعطيها الحنفي للأبناء الذكور
الحصة الخاصة.. طريقة مختلفة للتفكير
هناك ثلاثة أطراف في معادلة المواريث بين أيدينا وهم (الزوج، البنتين، الابنين)، نلاحظ في خارطة المواريث العالمية وجود توجه عام لمنح أحد الأطراف “حصة خاصة” زائدة عن البقية، في التشريع الأوربي الأميركي تقليد عريق يمنح الحصة الخاصة لشخص واحد ينتمي للأجيال الأكبر عمرا، سابقا كان الابن الذكر الأكبر أما اليوم فهو الزوج أو الزوجة، يمنحهم حصة خاصة إضافية دون إلزام بالنفقة على الأبناء أو الزوجة إذا كبروا واحتاجوا، يقطع الفقه الإسلامي مع هذا التقليد فلا يمنحها لشخص واحد ولا يمنحها للأجيال الأكبر الذين يجسدون الماضي، بل يمنحها لمجموعة تنتمي لأجيال المستقبل وهم الأجيال الأصغر.
يمكن لهذه الظاهرة أن تغير تفكيرنا تماما، في مسألتنا يعطي الفقه الحنفي لمجموعة الذكور (50%) ويعطي لمجموعة البنات (25%)، الفرق بين المجموعتين (25) وهو الحصة الخاصة، اعتدنا على التفكير بأن الفقه الحنفي سحب هذه الحصة من حصص البنات المفترضة حيث كان يفترض أن يأخذن مثل الذكور، لكن هذا مجرد احتمال، ثمة احتمالان أكثر قوة: أليس من المنطقي أن يكون سحب الحصة الخاصة من الزوج ومنحها للابنين؟ أو أخذها من وعاء التركة من اللحظة الأولى ثم خصصها للابنين دون أن يمس الحصص الأصلية لأحد؟
لن نختبر هذه الاحتمالات بالرجوع إلى المنطق الحنفي الداخلي ومبرراته الوجيهة جدا، بل سنرجع إلى جدول المواريث العالمية ونفترض أنه الإطار المرجعي لتقدير حصص الورثة الأصلية\الطبيعية، تظهر النتائج عدم تأثر حصة البنت الحنفية مقارنة بأنظمة المواريث العالمية، بل إنها تحتل موقعا متقدما يتجاوز المعدل العالمي الطبيعي، لأن متوسط حصة البنتين في خارطة المواريث العالمية (22%) من التركة والنظام الحنفي يعطي (25%)، فالحصة الخاصة للأبناء الذكور لم تؤخذ من حصة البنات الأصلية بدليل أنها لم تنقص منها.
لعل المقارنة الحنفية الألمانية السويسرية تمنحنا فرصة نادرة لرؤية الحقيقة من منظور المواريث العالمية، فالحصص تتطابق في أحجامها وتختلف في مواقعها ومستحقيها، كما يوضح الرسم التالي:
الحصة الخاصة
من اللحظة الأولى يخطف أنظارنا ذلك العمود الشاهق المختلف عما يجاوره، وهو يمثل حصة خاصة فائقة تم منحها لأحد الأطراف دون البقية، تتفق القوانين المقارنة أن طرفين من الورثة يأخذان حصصا متساوية (25%) من التركة لكل طرف، ويبقى نصف التركة للطرف الثالث، إذا تقدمنا خطوة أكثر وحددنا الميزة الفريدة التي أخذها الطرف الثالث سنجد أنها ربع التركة (25%)، وبما أنها شيء مختلف فلنضعها كحصة مستقلة ونمنع توزيعها مؤقتا، سنكتشف حينها أن الحصص الأصلية للأطراف الثلاثة متساوية (25%) لكل طرف، وهناك حصة خاصة موضوعة جانبا هكذا: (زوج 25 + ابنين 25 + بنتين 25 + حصة خاصة 25). لعل هذا صلب القضية والنقاش الحقوقي المعمق الذي يمكن اختصاره بنقطتين حاسمتين:
هل هناك حصة خاصة ممنوحة لأحد الأطراف الوارثة أم أن كامل التركة توزع مساواة؟ هل تذهب الحصة الخاصة للزوج أو الأبناء الذكور؟
تتفق القوانين الحنفية والسويسرية والألمانية على وجود حصة خاصة ثم تختلف بشدة فيمن سيأخذها، فيعطيها الألماني والسويسري للزوج بينما يعطيها الحنفي للأبناء الذكور، القضية الحقيقية هي بين الزوج والبنين لا بين البنات والبنين، لم تقترب القوانين من حصة البنات الأصلية ولم تكن طرفا في النقاش مقابل الابن أو الزوج، لكن النقاشات غير الموفقة التي تسود اليوم هي التي نقلت القضية لتكون بين البنت والابن وكأن الابن أخذ حصة البنت، إذا كنا سنعتبر أن الحصة الخاصة بالذكور أخذت من أحد فالمؤكد أنها أخذت من الزوج.
لدى الفقه الإسلامي التزام عام بأن يعطي الأولاد أكثر من الزوج ذكورا كانوا أو إناثا، يظهر هذا الالتزام والمنطق بشكله النقي حين يكون الورثة زوجا وبنتا فيكون التوزيع هكذا: (البنت 75 + الزوج 25)
كيف يبدو الميراث الحنفي من منظور المواريث العالمية
وفق جدول المواريث العالمية المدروسة فإن حصة الزوج في مسألتنا نصف التركة تقريبا (52%) ومتوسط حصة الابنين الربع تقريبا (22%) والبنتين (22%) والحكومة (4%)، أي أنه توجد حصة خاصة وهذه الحصة ممنوحة للزوج، لنقارن بين المواريث العالمية والفقه الحنفي:
المواريث العالمية = (الزوج 52 + ابنين 22 + بنتين 22 + حكومة 4)
الفقه الحنفي = (الزوج 25 + ابنين 50 + بنتين 25 + حكومة 0)
لنعتمد منظور المواريث العالمية باعتباره الحالة الأصلية، ثم نستخدمه كأداة تحليلية لفهم ما الذي فعله الفقه الحنفي، لقد نقل الحصة الخاصة من الزوج والحكومة إلى مجموعة الأبناء الذكور بشكل رئيسي، ومنح البنات حصة صغيرة زائدة عما منحتها المواريث العالمية، بشيء من التقريب سنجد أننا إذا أخذنا ربع التركة من الزوج وأعطيناها للابنين سنكون أمام الفقه الحنفي وجها لوجه، النصف للابنين والربع للزوج. في الرسم التالي توضيح تفصيلي لما فعله الفقه الحنفي من منظور المواريث العالمية:
المواريث العالمية في الفقه الحنفي
جاء الفقه الحنفي لتوزيعة المواريث العالمية فأخذ (27) من حصة الزوج البالغة (52) فأصبحت حصته (25)، وأخذ حصة الحكومة كاملة (4)، وجمع ذلك في صندوق الحصة الخاصة (4 + 27 = 31)، ثم أعاد التوزيع وأعطى من هذا الصندوق للابنين (28) فأصبحت حصتهما (50)، وأعطى البنتين (3) لتصبح حصتهما (25)، هذه قصة التوزيع الحنفي من منظور المواريث العالمية وهي التي يدونها الفقهاء هكذا: (الزوج 25 + الابنين 50 + البنتين 25). يدافع الفقه الإسلامي عن مصالح الأبناء الذكور مقابل مصالح الزوج والحكومة وليس مقابل البنات، إذا أردنا الدقة أكثر من منظور المواريث العالمية فهو يدافع عن مصالح الأبناء الذكور والبنات مقابل مصالح الزوج والحكومة.
لدى الفقه الإسلامي التزام عام بأن يعطي الأولاد أكثر من الزوج ذكورا كانوا أو إناثا، يظهر هذا الالتزام والمنطق بشكله النقي حين يكون الورثة زوجا وبنتا فيكون التوزيع هكذا: (البنت 75 + الزوج 25)، وكذلك لو كانوا زوجا وابنا: (الابن 75 + الزوج 25)، يأخذ الابن والبنت حصة أكبر دون تفريق بينهما، لأن الابن والبنت جيل أصغر سيحمل المستقبل مقارنة بالزوج الذي يكون أكبر عادة.
هذا القاعدة جزء من منطق أوسع يقوم على “موقع الجيل الوارث” أنه كلما كان الجيل أصغر أخذ حصة أكثر دون حرمان الجيل الأكبر، حتى عند اتحاد الجنس، فلو كان الورثة بنت المتوفى وأمه سيكون التوزيع هكذا: (البنت 75 + الأم 25) ولو كانوا الابن والأب سيوزع الفقه هكذا: (الابن 83.3 + الأب 16.6). وهذا بخلاف المواريث العالمية التي تعطي مساواة (البنت 50 + الزوج 50) كما هو القانون الألماني السويسري وغيرهما، أو تعطي الجيل الأكبر أكثر (البنت 0 + الزوج 100) كما هو القانون السويدي والأمريكي.
الفقه الإسلامي مشدود للمستقبل، حين يمنح الفقه الحنفي “حصة خاصة” لمجموعة الأبناء الذكور، فإنه يلزمهم بمقابل ذلك أن ينفقوا على أبويهم وأخواتهم مدى الحياة طالما احتاجوا لذلك، فكأنه يستعيد منهم عند الحاجة ما أخذوه من ميراث أكثر ويحوله للبنات والوالد الحي.
المصدر : مدونات الجزيرة
1- عبد الله عتر متخصص في دراسات الحريات والمقاصد والنظرية الأخلاقية الاجتماعية