بما كان مني من اهتمام وانشغال بأدب سيدي محمد ولد الكصري، رحمه الله، ظنني البعض ذا خبرة بأدب الرجل، والحقيقة أنني لا أعرف من أدبه إلا القليل؛ ولكن هذا القليل مجزئ في إدراك الميزة الموهوبة إياه من لدن الوهّاب العليم ..!!
في نص من (140) تافلويت، يتحدث هذا الرجل الأعجوبة عن خلق الإنسان والأرض والسماء، وسنقتصر هنا على ما تيسر من التعليق على مقوله في خلق الإنسان.
ولنا أن نتساءل هل كان الرجل يتحدث عن أولى مراحل التكون الجنيني، وأكثرها خفاء أيام حياته؟ أي عن البويضة المخصبة بالحيوان المنوي وعن تكوينها من نواة تتوسط مجموعة من الحبيبات الدقيقة المتجمعة داخل غلاف يمنع تبعثرها حتى تلتصق بجدار الرحم، وتتجاوز إلى مرحلة نمو تالية؟ وهذا الغلاف يسمى علميا بـ ((الغشاء))، وهو الاسم الوارد بذاته على لسان الشاعر في قوله:
(( ؤ تدبير أمر المخلوق ارعاه ** من مزال اغشاه امغشيه))..!!
قف معي على انبهاره بخلق الذكر والأنثى من البويضات المتساوية في مكوناتها وأشكالها وأحجامها:
((صنع من ذاك الشي وساه ** باذكور من وابناثيه))..!!
وكل شخص، ذكر أو أنثى، بناه الخلاق العليم من شتات فصار كيانا منفردا متآخي الأجزاء مُتلائِمها ((ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)).. عظام صلبة متنوعة الأشكال والآحجام حسبما تقتضيه وظيفة كل عضو في الجسم البشري، متراكبة بتداخلات معينة على ترابطها، ومناسبة للضروري من حركاتها ، وأعصاب شدّت بها تلك العظام المزودة في قنواتها وأنسجتها الآسفنجية بنخاع غني بالدهون المحافظة على نمو العظام وصلابتها، ثم لحم (عضلات) تكسو العظام وتقوم بأدوارها الهامة والكثيرة في بنية الجسم بمرونة ولياقة عجيبتين..!!
وبنظرته المدرِكة للثابت المقرر في العلوم الحديثة، يدرك ولد الكصري أن في الأنسجة العظمية الكثيفة قنوات تمر منها أوعية دموية وخيوط عصبية توصلها بالثقوب المغذية، وبقناة العظم الوسطية الملأى بالنخاع الدهني.. وأن في الأعصاب حزم من الألياف العصبية المغلفة بأنسجة تنتشر فيها أوعية دموية كذلك.. فليس الدم جاريا في اللحم فحسب، وإنما هو جار في اللحم والعظم والآعصاب، وهو لا يكف عن الجريان ما بقيت في الجسم حياة..!!
(( ؤكل امّل الاشخاص ابناه ** من تشتات اجناس امخاويه
جنس أعظام امســــيّسْ كساه ** وابجنس الحم ليّنْ كاسيه
ؤ جنس اعصب شدّد بيه الله ** العِظام ؤ كل اعظم فيه
قــدّر ل تركـــيب ؤ قــــــوّاه ** زاد ابمــــخ إتم املوميه
والدم افْــذ كامــــــــل جــرّاه ** ما يسكن فالجرم امجرّيهْ ))
يتواصل، وستكون التدوينة الموالية عن الروح والعقل إن شاء الله تعالى.
***
بعد ما أسلف من تبصر واعتبار بظاهر الكائن البشري، يأخذ بيدك، رحمه الله، إلى باطن هذا الكائن العجيب حتى يوقفك على أظهر الموجودات وأخفاها في ذات الوقت.. إلى الروح المودعة في الجسم الآدمي تمده بالحياة والحركة.. لاحركة ليد ولا رجل ولا لسان بدون الروح.. بل إن الروح هي المتحرك الحقيقي وما الأعضاء الآدمية إلا أدوات تتحرك بها، وإذا ما الروح تخلت عن التحرك بتلك الأعضاء فإنها لن تجد من يتحرك بها بعد، بل إنها ستتلف وتفنى..!!
فوجود الروح أمر ظاهر، شديد الظهور، ولكنه ظهور شديد متحد بخفاء شديد.. خفاء ما لا ترى له منظرا ولاتسمع له صوتا، ولا تجد له ملمسا..!!
ألا ما أجمل هُدى الحيران، وحيرة المهتدي، في قوله رحمه الله:
(( ؤ من عظيم اصَّ قدرت كاع ** مالك ذا الملك ابلا نزاع
ؤ لاهي تركيك لاختراع ** ذا الكون امن العدم ناشيه
تركيب للروح ؤ تصراع ** الروح افذا الهيكل تحييه
ما تور ذات ؤ لا سماع ** حس، ؤ لا حس انحست بيه
ؤ هي موجود شيخه كاع ** ماهي من شي لعقل ينفيه
واخبرها ظاهر بالتكياع ** ؤ دارك زاد امّلي خليه ))
ولم نزل في محطة استطلاع باطن الانسان.. من الروح إلى العقل، وما أدراك ما العقل.. ذلك المرشد العظيم المودع هو الآخرفي الإنسان دون أن يُعرف له كيف أو كمّ، وما الانسان في ظاهره إلا عصب وعظام ولحم.. وليس العقل أيا منها قطعا، ولكنه موجود في هذا الانسان قطعا كذلك، وهو منحة الله الكبرى للإنسان.. المنحة التي بها عرف الممنوح الفقير قدرة المانح الغني..!! ذلكم مضمون قوله رحمه الله:
((ؤ ذا الجرم اللي عمدت مبناه ** الحم واعصب واعظام ابناه
اللعقل واحن خرصناه ** غلبتنا حالت لعقل فيه
لعظم ما يعقل شي وامعاه ** لعصب ما يعقل شي يزيه
واللحمه ما تعقل والله ** واسَ لعقل فالشخص ؤ بيه
عرْف الشخص انُّ ذا اللي طاه ** لعقل قادر حك ؤعاطيه)) … بل اظواك …
التدوينة الموالية إن شاء الله عن حركة الانسان، ومرحلة رضاعه.
***
قبل الحديث عن مرحلة الحضانة والرضاع، على بعض من أعضاء الكائن الآدمي.. على الفم والمرّئ واللسان واليدين والرجلين.. أعضاء كل منها إبداع مدهش وحده وعطية عظيمة ناطقة بأن مبدعها وواهبها هو وحده المبدع الحق والكريم الحق، وما هي بعد ذلك إلا مثالا لغيرها من بدائع البديع الوهاب.. فما هي أعظم شأنا من العين أو الأذن أو الأنف وغيرها من أعضاء صُنعت، قبل الولادة، في ستر الرحم تكريما لهذا الإنسان المخلوق ((في أحسن تقويم)) والذي يخرج من طور التستر والتخلق في الرحم إلى طور الولادة والبروز للعيش على وجه الأرض حيث يولد وهو لم يزل في ضعف بالغ وقصور مطلق، لايجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، ولا يعقل من صلاح أمره شيئا، فتملأ العناية الالهية له قلوب الوالدين والأقارب حنانا وعطفا، فإذا برعايته وأسباب عيشه موفرة له مهيئة من غير معروف قدمه أو جهد بذله..!!
تراه وادعا هانئا في حضن أمّه حيث حباه خالقه بلبن طري سائغ شرابه من ذلك الوعاء العجيب .. من الثدي الحاوي لذلك اللبن، ميسرا إياه دون تقديم أو تأخيرعن لحظة الرغبة فيه..!!
ومن لطف الخلاق العليم بهذا الرضيع أن لم يجعل الثديين في الخلف أو الجنب، وإنما جعلهما في الأمام، يتدليان من الصدر في اتجاه الحضن حيث متكأ الرضيع ومستودعه الحاني والآمن، وجعل إحليل الثدي (منفذ اللبن منه) في رأس كروي صغير ترق، عند الرضاع وصلته بالثدي حتى يسهل إطباق الشفتين عليه، وجعل عضلة هذا الرأس شديدة التقلص والانقباض لكي تسد منفذ اللبن في غير أوقات الرضاع، أما عند الرضاع فيحدث فيها تمدد وارتخاء بقدر يسمح بنفوذ اللبن إلى فم الرضيع .. !!
ألا فاعجب لهذه العضلة التي لاهي تبقى على شدة انقباضها وتقلصها حتى تمسك اللبن عن الرضيع، ولا هي تفرط في التمدد والارتخاء حتى تؤذيه بتدفقه..!!
يقول رحمه الله:
((بل اظوك ؤ نطق ؤ ممشاه ** ابرجلين اصنعهم وايديه
اصنعهم ل، هاذ وساه ** سابك يخلك مكرم بيه
وامنين اخلك ما ج متكول ** اعل راصُ عنُّ مغفول
كيف ان يخلك يخلك مجعول ** خلق اعليه إلين إربيه
متمونك فاللطف المسدول ** مقهورالُ مدّ تبقيه
ما هو باخزين اكبل مفعول ** الا قهر الله اماسيه
ؤ كرمُ بدرار البن مصكول ** ما يتوخر عن وقت امجيه
ؤلايعجل محال الا كول ** متواعد واياه إحانيه
حاصل فامُّ فابلد مسبول ** مكدود اعل فمُّ راضيه
ما هو مقلوك ؤ لا محلول ** حلّ إعود اببجّ يوذيه
الا كد المنيه مبذول ** واعل نفعُ بيه إسهديه
ؤ وساه الكدام اعل مول ** الرعيه واياك اتكيه
متمونك فالعبون ؤ طول ** سقرُ كامل هي راعيه
وإتم اف لطف إلين اتحول** احوال واللطف إراريه))