كنت قبل سنوات أجلس على شاطئ البحر الميت في الأردن أتأمله قبيل الدخول في عالمه وبرفقتي مواطن من فلسطين.. وبعد حديث قصير أشار بيده إلى الضفة المقابلة، وسألني إن كنت أعرف في أي بلد تقع، وقبل الجواب، قال لي بحسرة واشتياق: “هذه فلسطين”.وبدأ يتحدث عن تلك الأرض وأشواقه للمكان وعن فلسطين، وهذا حال أغلب من أقابل من الفلسطينيين، حيث يحملون معهم قصتهم أينما حلوا وارتحلوا، فيبثون ذكرياتهم في فلسطين ويذكرون أرضهم ويتذكرون قصصهم، ويستوي في ذلك أهل الشتات وناس غزة والضفة وحتى من يقبعون تحت السيطرة المباشرة للكيان الصهيوني، وهؤلاء بالتحديد تحضر عندهم القضية بقوة وبنضارتها الأولى وهي مفاجئة للبعض، ولست منهم.. واليوم في حديث عابر مع صديقة فلسطينية من أهل الضفة، قالت لي حين سألتها عن الوضع: “كما هو متوقع في هذه الظروف نوع من الصدمة والقلق. ولكن هذه المرة نشعر بحالة مِن الفرح وسببها هو أن الذين احتلوا في 1948 وتم تجنيسهم أثبتوا أن 73 سنة من الاحتلال لم تنجح في طمس هويتهم وانتمائهم لفلسطين”، مؤكدة خوفها عليهم من انتقام الكيان الصهيوني.واقع الإنسان الفلسطيني في الداخل هذا مريح حقا ومثلج للصدر، فرغم المحاولات الصهيونية ما يزال سكان الداخل يرفضون الانسلاخ من هويتهم الأصلية ولا يرضخون لغطرسة الاحتلال، وما أحداث حي الشيخ الجراح إلا جزء من المشهد، وذكر وتذكر وتذكير بقصة فلسطين.وهي رسالة واضحة لمن يهرول نحو التطبيع ويروج للهوان كحل واقعي بأن أصحاب الشأن يرفضون ذلك ولا يَرَوْن فيه مصلحتهم.. وهم أدرى بشأنهم.. ورسالة أوضح لمن يعول على أن الزمن كفيل بسحق الرفض والغضب.. فحتى من يعيشون تحت سطوة الاحتلال وقوانينه وأوراقه كل هذا الزمن لم يستطيعوا أن يجدوا أنفسهم في دولة الاحتلال، لأنها دولة أبارتايد ولا ينفع معها الخطاب المروج لواقعيته، فالكيان المحتل تأسس على الظلم وبقي لحد الآن عليه ولا يمكن أن يستمر بدونه.وأصحاب القضية يعون ذلك ويرفضون النسيان والذوبان، ويتذكرون قصتهم كل حين وكأنها أصبحت وردا يرافقهم ويعملون بقول الشيخ عبد الله:” من يريد أن يتذكر فليذكر فما دام المرء يذكر فلن ينسى مذكوره أبدا”.وأهل فلسطين لم ينسوا مذكورتهم ولا قضيتهم رغم تعاقب السنين، فيذكرون العالم بها كلّما ظن البعض خفوتها إلى الأبد.وصدق غسان كنفاني حين قال إنهم نجحوا في إثبات أن شعبهم لا يمكن هزيمته أبدا، وتعليم كل شخص في هذا العالم أنهم أمة صغيرة وشجاعة ستقاتل حتى آخر قطرة دم.من أجل تحقيق العدالة لأنفسهم بعد أن فشل العالم في تقديمها لهم.
المصدر : مدونة أحمد ولد جدو http://ahmedjedou.blogspot.com/?m=1