1– كان أول فشل لي في حياتي مولدي . فقد ولدت في أسرة عادية، وكنت أتساءل في أول خطواتي التفكيرية (وأنا طفل) لماذا لم أولد من أسرة نبيلة أو أميرية، ثم اكتشفت بعد سنوات عديدة، وأنا أطالع كتابات سيغموند فرويد، أن الأطفال الذين يحلمون بالولادة من أسرة وهمية أنبل من أسرتهم الفعلية، هم الأطفال المرشحون الأكثر من غيرهم للتثبيت في العقدة الأوديبية.
2- ثاني فشل في حياتي هو اسمي. فقد ولدت عام 1939م، وفي حينه كانت سورية قد بدأت تشهد نضوجاً للوعي القومي، تمثل فيما تمثل في إقدام الأسر على تسمية أبنائها بأسماء عربية لا تدل على انتمائهم الديني أو الطائفي، فضلاً عن أن تعريب الأسماء كان شكلاً من أشكال المقاومة للمستعمر الفرنسي، وبالفعل، فإن أبي الذي كان على صلة ما بالحركة الوطنية سمى جميع أخوتي بأسماء عربية : سمير، وجلال، وفائز. إلخ،،، باستثنائي أنا. وحين سألته عن السر في ذلك أجاب : أنت ابني البكر ، وكان لا بد أن أسميك باسم جدك ، فهذا تقليد لا يمكن أن نشذ عنه. وبالفعل، فقد بقيت أتألم من اسمي، بوقعه الأجنبي ودلالته الطائفية، حقبة مريرة من الزمن. ثم بدأت أتصالح معه عندما اكتشفت أنه من أصل يوناني، وأنه يعني باليونانية : «شغيل الأرض»، أي الفلاح، وأنه ليس أجنبياً خالصاً، بل ذو أصل سامي : فهو مشتق من «الجين»، وتعني بالسامية الأرض ومنها أيضاً اشتقت كلمة «جغرافيا». ثم كانت مصالحتي التامة مع اسمي عندما اكتشفت من قراءاتي في التراث العربي الإسلامي أن واحداً من كبار المحدثين المكيين كان يحمل الاسم نفسه، ولكن بصيغة أكثر تعريباً : ابن جريج.
3- ومما أذكره من أنواع الفشل في حياتي فشلي في عد النجوم. فأنا لم أكن سهل النوم، وكما في الصيف، في حلب، ننام على الأسطحة. فتحداني أبي ذات ليلة – وقد لاحظ امتناع النوم عن جفوني – أن أعدّ النجوم في السماء الصافية، فقبلت التحدي وشرعت بسذاجتي الطفولية أعد النجوم نجماً نجماً وبطبيعة الحال، فقد فشلت، ولكني نجحت بالمقابل في النوم، وما كنت أدري أن العد «للنجوم أو مجرد الأرقام بتسلسلها» هو أجدى وسيلة لقتل الأرق.
4- فشلت أيضاً في القفز في السباحة، فقد كان رفاقي يتبارون في القفز في حوض السباحة من أعلى السُّلم. وقد حاولت أن أقلّدهم. ولكن بدلاً من أن أسقط في الماء على رأسي، سقطت على بطني وتوجعت وجعاً كثيراً، ومنذ ذلك اليوم امتنعت عن القفز في الماء على الرأس، وصرت لا أنزل إلى حمام السباحة إلا على قدمي.
5- فشلت في أن أكون لاعب كرة قدم، فقد كان أولاد حارتي ينظمون مباريات تنافسية مع أولاد الحارة المجاورة. فانضممت إلى الفريق وشاركت في عدة مباريات. ولكن ذات مرة تلقيت الكرة – وكانت عنيفة – برأسي وأصبت بصداع شديد اضطرني إلى أن أقاطع الملعب بصورة نهائية.
6- كان الاقتتال بالملاكمة واحدة من هوايات أبناء حارتي. ولكن بنيتي النحيلة في طفولتي منعتني بصورة نهائية أيضاً من أن أكون «بطلاً» لا في الملاكمة، ولا في المصارعة، ولا في جميع أشكال المواجهة التي تتطلب قوة عضلية.ترى أكان ذلك هو دافعي إلى التوجه نحو القوة الفكرية؟
7- كانت حفلات الأعياد والموالد والأعراس كثيرة في حارتنا. وكان الغناء الجماعي شائعاً في تلك الحفلات، ولكن في كل مرة كنت أنبري فيها للمشاركة في الغناء كان الحضور يطلبون مني في الحال أن أمتنع عن الغناء، فقد كان صوتي – قبل بلوغي – منكراً، فضلاً عن أن أذني كانت ناشزة.
8- بالفعل إن أذني لم تكن في يوم من الأيام موسيقية، فرغم امتلاكي من صغري ناصية اللغة العربية، ورغم إتقاني لعلم العروض المجرد، فقد فشلت في أن أنظم بيتاً واحداً من الشعر.
9- كما فشلت في أن أكون شاعراً، ولو ليوم واحد، فقد فشلت في أن أكون روائياً، فما أكثر ما كتبت وما مزقت من مخطوطات ومشاريع روايات، ولكن مقابل فشلي هذا نجحت في أن أكون ناقداً روائياً، وبذلك يكون قد انطبق علي القول السائر:إن تحت جلد كل ناقد ناجح روائي فاشل
10- فشلي الثقافي الآخر يكمن في علاقتي باللغات الأجنبية، فرغم أنني أتقنت الفرنسية قراءة وكتابة، وترجمت منها إلى العربية عشرات الكتب، فإنني لم أنجح قط في أن أتقنها نطقاً، والعجيب أنه حتى بعد أن انقضت على إقامتي في مغتربي بفرنسا خمس عشرة سنة كاملة، فإني ما زلت إلى اليوم أتلعثم بالنطق بالفرنسية والرطن بها.
11- فشلي في مقاومة الزمن، فقد كنت أتعجب في شبابي من توفيق الحكيم- وكان من أحب الكتاب إليَّ- عندما كنت أجده في العديد من نصوصه يلح كل ذلك الإلحاح على حتمية قانون الزمن، وكنت في اندفاعي الشبابي أتوهم أنني لن أشيخ أبداً. ولكن ها أنذا أطرق أبواب الشيخوخة واكتشفت، مثلي مثل جميع الآخرين من شيوخ البشر أن ما بقي من الحياة أقل بكثير مما تقدم منها.
12- فشلي الأكثر في حياتي هو الهزيمة العربية في حزيران 1967م ،ولكن هذا ليس «فشلي» بل هو فشل جيلي بأكمله، إنه فشل الأمة ،ومما يرعبني أن أفكر، مجرد التفكير، بأن الحياة لن تمتد بي بما فيه الكفاية لأرى نهاية هذا الفشل، ولا أدري هل ستكون له من نهاية أصلاً.
13- فشلت في أن أكون غنياً، فرغم أني تجاوزت الستين، وكتبت وترجمت نحواً من مئتي كتاب، فإني مازلت مضطراً حتى اليوم إلى العمل والكتابة الصحفية لتأمين القوت اليومي، ولكن لكي أكون واضحاً، فأنا ما أحببت قط الغنى للغنى، ولكن كنت دوماً أحلم بأن يكون لي دخل متواضع، ولكن كاف لكي أتفرغ تفرغاً تاماً للكتابة. وهذا ما لم أنجح فيه إلى اليوم.
14- فشلت في تحقيق حلم زوجتي، لا حلمي، في أن ننجب ولداً ذكراً، فنحن لم نرزق سوى بنات، ثلاث بالعدد لأصارح القارئ بأنني سعيد بذلك ، لا حزين. فأنا قد ولدت في أسرة تتألف من ستة إخوة من الذكور، وكنت منذ طفولتي أحلم وأتمنى لو كانت لنا، نحن الستة أختاً تلقي على وجودنا الذكوري شيئاً من الدفء والأنس الأنثوي. ولذلك عندما رزقت ببنت أولى، ثم ثانية، ثم ثالثة، سعدت وبقيت سعيداً. ولكن زوجتي في المرة الثالثة بكت، فقد كانت تريد ولداً ذكراً. وأنا أفهمها وأفهم رغبتها هذه، ولكني مع ذلك فرح، ولو كنا رزقنا ولداً رابعاً ، فإني كنت سأرحب بأن يكون بنتاً.
15- حاولت عبثاً أن أهتدي إلى فشل خامس عشر في حياتي، كما طلبت مني هيئة تحرير مجلة «المعرفة» فليكن إذاً هذا الفشل هو الفشل الأخير المطلوب.
298