لا أكون مخلصا لمجتمعي وبلادي إن لم أعرج اليوم عن النقد الحاد الذي عرفت به لحكوماتنا وإداراتنا لأورد موقفا “عمريا” لأحد مسؤولينا السابقين ، أنقذ به نحو ألفين من سكان آدوابه كلاكه من العطش والأوبئة، موقفا سيجد القارئ ،لا محالة، صعوبة في تصديق أنه جرى في موريتانيا.
عام 2015 آلمني وضع سكان آدوابه كلاكه الذين لا يجدون مصدرا للشرب إلا مياه سد كلاكه العفنة، التي قضت على الكثيرين منهم في موجات أوبئة تنتشر كل بضع سنين.
صممت على مواجهة الحكومة عبر خطة من ثلاث مراحل متتالية :
أولا : إطلاعها ،عبر جميع إداراتها المختصة ، على وضع السكان البائس، وذلك من خلال رسائل رسمية ،موثقة التسليم.
ثانيا : محاولة إقناعها بمبررات تأمين حفر عاجل في الوادي , مع دحض الحجج المضادة ،وذلك من خلال اجتماعات مع مسؤولي القطاعات المعنية.
ثالثا : التشهير بها إعلاميا ،كسلاح أخير، لحملها على التحرك بصورة عاجلة ،وذلك عبر التظاهر مع الضحايا ،أمام الجهات المعنية،حاملين قنينات من مياه السد العفنة لإطلاع الرأي العام على مأساة السكان.
وهكذا قمت ،بمساعدة بعض شبان الحي ، بإحصاء دقيق لسكان الوادي الذين وصل عددهم إلى نحو ألفين .ثم طبعنا قائمة الأسماء في كتيب لإقناع الحكومة بأن الأمر لا يتعلق ببضع أسر معزولة، تطلب ما ليس لها بحق.
ثم وجهت سبع رسائل باسم رابطة التطوير والتنويع الزراعي التي أتولى رئاستها ،إلى سبع جهات حكومية،مصحوبة بعينات المياه السوداء العفنة ،وبقائمة السكان الضخمة .
وكان من ضمن الرسائل رسالة إلى وزير الصحة ،أطلب فيها فحص المياه في المختبر الحكومي ،باعتبارها متهمة بالتسبب في الكثير من الوفيات .
وقد كان جواب المختبر أن المياه تحتوي على أربعة مواد ضارة بالصحة،وأنها غير صالحة للاستخدام الآدمي ،حسب معايير منظمة الصحة العالمية.
لقد أردت بهذا الفحص، محاصرة الحكومة ومواجهتها بأسلحتها.
لكن تركيزي كان على ثلاث جهات حكومية مسؤولة عن توفير المياه في مثل هذه الحالات،هي وزارة المياه ووكالتا النفاذ الشامل وتضامن.
احتجت إلى التهديد الصريح بالتشهير عن طريق التظاهر حتى أتمكن، بعد نقاش طويل، من إقناع وزير المياه وأمينه العام بإرسال بعثة تنقيب عاجلة لكلاكه ، للبحث عن المياه تمهيدا للحفر.
أما إدارة النفاذ، فلم أحتج معها إلا إلى الوصول للمرحلة الثانية فقط،حيث اقتنعت بعد اجتماعين مع مديرها بالطابع الاستعجالي للحفر وكلفت إحدى الشركات المختصة فورا بالتنقيب والحفر .
الإدارة الوحيدة التي لم تحتج إلا إلى رسالة الإبلاغ كانت إدارة تضامن ،التي كان يديرها آنذاك الرجل الغريب في إدارتنا حمدي بن المحجوب .فقد فوجئت بالرجل يتصل بي من خلال الرقم المسجل في الرسالة،وكأنه آلمه أن يكون في موريتانيا من لا يزالون يعيشون مثل هذه الوضعية.
كانت إدارة تضامن تتعاقد مع شركة حفر تقوم في ذلك الوقت بأعمال في شرق تكانت.لكن حمدي ،المتأثر بحال هؤلاء المساكين في كلاكه ،أمر شركة الحفر بأن تنقل معداتها فورا ،قبل إتمام عملها في الموقع ،إلى كلاكه لتباشرالتنقيب والحفر .
ماطلت الشركة خلسة، حتى لا تتكبد خسارة نقل معداتها إلى كلاكه في غرب تكانت ،والعودة إلى الشرق مرة أخرى،مما تسبب في إغضاب المدير، ورفضه مقابلة بعض مسؤولي الشركة، الذين قدموا لمراجعته.
كان يمكن أن يكون هذا التصرف من مدير تضامن تجاه آدوابه كلاكه مألوفا في إدارتنا، لو كان وراءه أمر من رئيس الدولة، أو الوزير الأول، أو تدخل من إحدى الشخصيات النافذة.أما ألا يكون وراء هذا التصرف إلا وخزة ضمير حي، فذلك ما ليس مألوفا في البلاد السائبة.
المهم أن تضامن أنقذت سكان آدوابه كلاكه ،وزودتهم بشبكة مياه كبيرة، لا تقل تكلفتها عن عشرات الملايين من الأوقية القديمة.(رابط صور الشبكة في أول تعليق ) .
وقد اختفت العديد من الأمراض التي كانت تفتك بالسكان ،حسب ما أخبرني به طبيب الوادي .كما تحولت بشرة سكان الوادي من السواد الداكن إلى السمرة الفاتحة ,بسبب التحول من المياه الآسنة إلى المياه العذبة.
والمسألة الأخرى الغريبة في أمر صفقة الشبكة، أنه تم الضغط على المقاول المنفذ في جودة المواصفات الفنية ،حتى وجد صعوبات شديدة في إتمام التنفيذ، وعندها قرر حمدي سحب الضمان المالي المتعلق بالصفقة ،مما اضطر البنك المؤمن للضمان المالي إلى التدخل لتأمين إكمال أعمال الورشة التي تأخرت زمنيا بسبب الإصرار على جودة المواصفات .
وهذا ما علق عليه أحد موظفي الوزارات الأخرى، الذي لقيته مصادفة في كلاكه ،عندما كان يتفقد بعض الأعمال التابعة لوزارته ،علق بقوله :
“زرت عدة مناطق من البلاد، وما رأيت عملا تابعا لهذا الرجل (يقصد حمدي ) إلا تميز بالإتقان في الإنجاز “.
وفي الأخير ، لا أعرف حتى الآن ،إلى أي جهات موريتانيا ينتمي هذا الرجل الفريد ،لكنني أعرف أنه ينتمي إلى إحدى العملات النادرة في بلادنا .
أما عن الأسباب التي أخرجته من الحكومة ،فهي نفس الأسباب التي أخرجت رجل الإصلاح الوحيد في قطاع الصحة نذيرو.
لوبيات الفساد التي تتحكم في مفاصل الدولة ،لا تريد ضميرا مبصرا ،في صدر المجلس ،وسط عميانها..!
لكن “صدر المجلس حيث يجلس نابليون ” كما يقول امبراطور فرنسا الأول . وهذا ما لا يدركه المفسدون في الأرض ، وكثير ما هم ..!
111