كنت قد طرحت سؤالا يتعلق باول مدينة موريتانية تتعرض لقصف فرنسي …
الجواب : يتضمن معلومات في غاية الاهمية وربما الغالبية لم تسمع بها قبل اليوم …
هي مدينة او حاضرة ” الرشيد ” ولم اختر ان يكون الجواب اليوم وانما لم اجد الوقت اللازم للتركيز على كتابته بالامس كأن الله اراد لي ان اطلع على تدوينة للاخ الفاضل bamba chikh يتحدث فيها عن ذكرى معركة الرشيد هذا اليوم 16 اغسطس ويالها من مصادفة ..
نعم لقد مكر القائد المجاهد محمد المختار بن الحامد بن امينوه بفرنسا ، فقد دخل مع كبولاني في مفاوضات طويلة افضت الى اقتناع المحتل بنوايا محمد المختار فقام بتسليحه بافضل الاسلحة ومنحه الثقة الكاملة ..
استغل محمد المختار تلك الثقة في تدعيم موقعه العسكري لكنه كان على تواصل مع شيخ المقاومة الشيخ ماء العينين كما اشار الى ذلك الرائد افريرجان في مذكراته ، على عكس مايعتقد البعض بان تخلي محمد المختار عن العلاقة مع فرنسا جاء كحمية لابطال النيملان ، بل اثبتت الكتابات الفرنسية المتوالية بعد تلك الحوادث بسنين طويلة ان المستعمر وقع ضحية لمخطط محكم اراد به الزعيم الكنتي ايقاع جيوش الاستعمار في مستنقع دموي يدمر احلام الغزاة …
فقد ظل على اتصال بكل قادة المقاومة حتى اولئك الذين كان على خلاف معهم كالامير عثمان بن بكار ولد اسويد احمد ، كما انني وجدت استنادا الى مجموعة من المعلومات ان عملية اغتيال كبولاني ربما لم تكن مفاجئة للقائد محمد المختار وهو الذي ذكر افريرجان بانه كان معهم وقت الهجوم وانه دخل خيمته ولم يقاتل دفاعا عن كبولاني ، فالشهيد الشريف سيدي ولد مولاي الزين قائد العملية تربطه علاقة مصاهرة مباشرة مع محمد المختار ، كما ان جماعة اديشلي تناكي وغيرهم والتي نفذت العملية كانت له معها علاقات عبر حلفائه المجاهدين من اهل احجور الشليون ، بالاضافة الى ماذكرناه انفا من اتصالات سرية متواصلة مع الشيخ ماء العينين الذي تتهمه كل التقارير الفرنسية بالوقوف وراء حملات التحريض التي استهدفت كبولاني هو وصديقه شيخ الطريقة الغظفية المجاهد محمد محمود ولد محمد احمد البصادي الانصاري ، لااستطيع الجزم حتى الان بدور من اي نوع للقائد محمد المختار في عملية مقتل كبولاني لكنني اضع نقاط الاستفهام هذه امام الباحثين والمؤرخين لعل احدهم يجد خيطا يقود الى معلومات اكثر تفصيلا حول هذه المسألة .
نصل باختصار الى دوافع الحقد الفرنسي على ” الرشيد ” وقبيلة كنتة بالعموم ، لقد رأى الفرنسيون في مشاركة كنتة بقيادة محمد المختار بن الحامد في معركة النيملان مفاجئة صادمة وخيانة لاتغتفر فالرجل قاتل الفرنسيين باسلحتهم التي زودوها بها مما سهل من هزيمتهم المذلة امام جيوش المجاهدين القادمة من مختلف اصقاع الوطن كما شارك بامتياز في حصار تجكجة ، الذي كاد ان يتطور الى انتصار كاسح للمقاومة لولا الخلافات التي اثارتها التدخلات غير الموفقة لبعض قادة المقاومة …
كانت صدمة قادة الاحتلال عنيفة فقد اعتقدوا بانهم اقنعوا الرجل بالركوع لهم مقابل الامتيازات فكشفت لهم الاحداث اللاحقة بانه انما كان يتلاعب بهم ليكسب الوقت لصالحه ولصالح المقاومة عموما ، ولهذا يشير الرائد جيليه في كتابه ” التوغل في موريتانيا ” الصفحة رقم 311 حيث يقول : ” دخل كبولاني في مفاوضات شاقة … استدعى اليه كنتة الحوض وشيخهم محمد المختار الذي وعده بمنحه الهيمنة على تكانت في محل إدوعيش …استجاب محمد المختار لنداء كبولاني لكنه سبق ان اشرب نفوذ عدونا العنيد مرابط السمارة الشيخ ماء العينين ، الذي كان نجله الشيخ حسنا لدى ادوعيش في نفس الاوان يدعوا للمقاومة حتى النهاية …” انتهي كلام جيليه هنا .
بعد انتصار المقاومة في النيملان والدور الحاسم الذي لعبه محمد المختار في تحقيق ذلك الانتصار وهو الدور الذي كلفه فقدان كافة امتيازاته والوعود الفرنسية بتنصيبه اميرا على مناطق واسعة من البلاد ، اتجه محمد المختار الى السمارة لحضور مؤتمرها الثاني الذي دعى له الشيخ ماء العينين ، هذا الاخير اراد الذهاب بالوفود الى السلطان مولاي عبد العزيز في فاس لكن الصراع بين الشقيقين عبد العزيز ومولاي احفيظ ومحاولة كليهما استمالة الشيخ الى جانبه اخرت وصول الوفود الا ان الشيخ قرر في الاخير حزم امره والوقوف الى جانب السلطان مولاي حفيظ الذي كان صريحا في دعمه للمقاومة على عكس اخيه الذي كان خاضعا لنفوذ بعض القادة الموالين لفرنسا بشكل سري ، وصلت الوفود الى مراكش حيث تم استقبالها بشكل احتفالي كبير وكان من ضمن الوفود جماعة كنتة بقيادة محمد المختار بن الحامد وبعض كبار اعيان القبيلة ومنهم احمد ولد ودادي وسيدي احمد بن سيدات ..
بعد رجوع محمد المختار ولد الحامد من سفره ذاك شرع في تنظيم مقاومة شرسة من مقره بالرشيد قَضَّت مضجع المستعمر في نواحي تگانت وأفلة فشارك في عملية الجحافية حيث أُبِيدَت مجموعةٌ بقيادة ضابطِ صفٍ فرنسي، وهاجم معسكر العدو في بوعش، فسلب المجاهدون أمواله ولاذ زعماؤُه بالفرار وفي أخرى في لتفتار وكان محاربوه ضمن مجموعات المينان ولَفْرَيْوات وتنواعدين وأنتاكش ، إضافة إلى ذلك شكل محمد المختار دوريات خاصة لاعتراض قوافل المؤن والإمدادات المتوجهة إلى العدو في تجگجة.
أصبحت مدينة الرشيد ملاذا لمجموعات المقاومة التي تقاطرت إليه من كل حدب وصوب وأصبحت بذلك تشكل خطرا بالغا على العدو وكان لا بد بالنسبة له من إزالتها كأولوية في المقام الأول، وأخذ مباشرة يعد العدة لذلك حيث يقول المقدم الفرنسي كورو “… يوجد تجمع للعدو متهور مقيم في الرشيد، 40 كيلومترا من تجگجة والذي يترصد تمورنا ومواشينا رغما عنا. وقد جمعتُ لطردهم، من هنا، 300 بندقية وقطعتي مدفعية و100من بين قوات الخيالة والقناصة المتسلقين، وأسندت قيادة هذه المفرزة إلى دي لابرييرDe labrière “
وعن معركة الرشيد يقول الشيخ الطالب أخيار ولد مامينا في كتابه ” علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي” : “بدأت القوات الفرنسية في شن هجومها العنيف يوم 16 أغسطس 1908 على مدينة الرشيد للقضاء على المجاهدين وتدمير قوتهم القتالية واستخدم المهاجمون المدافع الثقيلة واستمر الهجوم 5 ساعات أظهر فيها المقاومون وقائدهم ولد الحامد من الشجاعة والثبات ما أربك المهاجمين إذ كان يدير المعركة بمهارة فائقة وقدرة كبيرة بالرغم من جراحه التي كان قد أصيب بها في اشتباك سابق “
ويضيف الشيخ الطالب اخيار: “هذه المقاومة الباسلة التي أبداها أهل الرشيد أفقدت الفرنسيين صوابهم فشرعوا في قصف وحشي، عشوائي للقرية، إلى أن دمروها تماما فانسحب محمد المختار ليلا وابتعد مع رجاله مسافة 25 كيلومترا غربا.
ويقول الرائد جيلييه في روايته عن المعركة:
[…في الرشيد بتگانت استقر الشيخ المسن زعيم كنتة محمد المختار ولد الحامد الذي خاننا في النيملان عندما انحاز إلى جانب العدو أثناء المعركة ومعه ما يناهز 150 مقاتلا وتحصن في هذا القصر القديم الذي أصبح ملاذا للنهابين في المنطقة، وفي يوم 16 تهيأ رائد الكتيبة :شان بارت قائد كتيبة موريتانيا ودائرة تگانت بالهجوم على قصر الرشيد ومعه الفرق التي جاءت للدعم وأنضم إلى هؤلاء 85 قناصا من فرقة تجگجة وأرغمت نيران مدفعية الكتيبة العدو على إخلاء كوخ محمد المختار شيخ كنتة ومن ثم إخلاء جميع أكواخ القصر وبعد خمس ساعات من القتال اختفى العدو وراء المرتفعات الصخرية وقتل منا قناص واحد وجرح ضابطا صف أوروبيان هما: المساعد جيموريني (Gémorini) والرقيب باسكتان (Passquetin) وستة قناصين…].
لكن المؤرخ الشيخ الطالب اخيار يلاحظ بان الرائد جيليه وغيره من الضباط الفرنسيين لم يتطرقوا كعادتهم للفظائع وجرائم الحرب الوحشية التي ارتكبها الجنود الفرنسيون في هذا الهجوم، فقد اجهزوا على الجرحى ومثلوا بجثثهم كما فعلوا مع الشهيد محمد بن أمحمد بن خواه ، وعاث الجنود في الوادي فسادا فأحرقوا الكتب والخيام، وهدموا المنازل وأعتدو على النساء، وأستولوا على المواد الغذائية والمواشيي . انتهى الاستشهاد.
بعد استيلاء الفرنسيين على الرشيد معقل المجاهدين الابرار اتجه القائد محمد المختار بن الحامد مع مجموعة من المجاهدين ومنهم شقيقه سيد احمد الى الشمال وقد اختلفت الروايات حول مصير هذا القائد وان كانت بعض الروايات العائلية تتحدث عن وفاته وهو في الطريق الى الحج بالقرب من مكة المركة إلا انني اطلعت على عدد من مجلة le petit journal الفرنسية صادر في سنة 1912 يتحدث عن تواجد القائد محمد المختار اثناء مراسم مبايعة الشيخ احمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين سلطانا على المغرب في تيزنيت سنة بداية سنة 1912 …
استطاعت فرنسا هزيمة الرشيد وقائدها المغوار محمد المختار بن الحامد ، لكنها لم تكسرالاباء الذي زرعوه بنضالاتهم وتضحياتهم فظل اهل الرشيد والنيملان وغيرها من مناطق الوطن على وفائهم لروح التضجية والفداء التي سطرها الاجداد صيبحة يوم دامي من ايام اغسطس سنة 1908 ، ولادليل على ذلك اكبر من توافد المئات من الاطر والشباب والشيوخ من كل حدب وصوب لتخليد ذكرى معركتي الرشيد والنيملان في السنتين الماضيتين برعاية من الرابطة الوطنية لتخليد بطولات المقاومة في ظل الاجواء الايجابية التي وفرها النظام الحالي ــ بغض النظرعن تباين مواقفنا منه ــ لاحياء كل ماله علاقة بماضي هذا الشعب العظيم وخصوصا فترة المقاومة الباسلة التي تعرضت للتهميش والتعتيم طيلة العقود الماضية ..
كما قلت انفا لم تنكسر روح المقاومة لان للباطل صولة وستنتهي بالتأكيد فاختم بكلمة لشهيد ليبيا الشيخ الصوفي خالد الذكر عمر المختار رحمه الله :
لئن كسر المدفع سيفي ……….فلن يكسر الباطل حقي
رحم الله القائد البطل محمد المختار بن الحامد الكنتي وابطال الرشيد وكل شهداء واعلام المقاومة المجيدة.