وعت أذناي وأنا غض الإهاب أسماء عدة شخصيات علمية كانت كثيرا ما يجري ذكرها في الحديث اليومي للعائلة، كالشيخ محمد اليدالي بن محمد سعيد، وبَبَّها بن محمذ بن أحمد بن العاقل، ومولود بن أحمد اجويد، وأحمد البدوي المجلسي، ومحمذباب بن داداه، وأحمد سالم بن دِيدِ، وكراي بن أحمد يوره، رحمة الله عليهم جميعاً، خاصة إذا كان موضوع الحديث يتعلق بالجناب النبوي كالسيرة العطرة، والمدائح الشريفة، ومحبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. من ناحية أخرى، فقد شهد مطلع العقد الأخير من القرن المنصرم، نقلة نوعية في المجال الإعلامي في موريتانيا؛ خاصة بعد زيادة هامش حرية الإعلام الذي كرسه دستور 20 يوليو 1990،حيث أصدرت الصحف الحرة، وتطورت المسطرة البرامجية للإذاعة والتلفزيون، فباتت متابعة وسائل الإعلام بنداً ثابتاً في البرنامج اليومي للشباب خاصة بعد اندلاع حرب الخليج.
يعتبر شهر رمضان موسماً ثقافياً وعلمياً بامتياز، وكنت أحرص على متابعة برنامج روضة الصيام الذي يبدأ بمحاضرة علمية يلقيها أحد الشيوخ في الجامع السعودي، ويعقب عليها مدير التوجيه الإسلامي، وتختتم بمسابقة مفيدة وشيقة يجيب عليها المستمعون عبر الهاتف، إضافة إلى برنامج رمضانيات عبر الهواء الذي يبث منتصف الليل، موازاة مع ذلك، أطلق التلفزيون الوطني برنامجا مباشرا خاصا بشهر رمضان،بعنوان السهرة الرمضانية يستضيف شيخا وطبيبا يناقشان قضايا الساعة ويجيبان على أسئلة المشاهدين المتعلقة بالصوم ،وكانت مشاهدة البرنامج تبلغ ذروتها عندما تتم استضافة الشيخين حمدا بن التاه ومحمد سالم بن عدود رحمة الله عليهما.
أحببت الاستماع للشيخ “حُباً” لأن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب، وأدمنت متابعة برامجه، بسبب اتساع معارفه، وقدرته على التوصيل، ولغته الجميلة، وتعابيره البسيطة، وتسلسل أفكاره، وابتعاده عن التقعر والسجع وكثرة الاستطرادات، إضافة إلى المنطقية في الطرح والقدرة على معالجة القضايا المستجدة التي تشغل الرأي العام، أتذكر أنه كان ذات مرة ضيفا على برنامج إذاعي فسأل سائل عن حكم عدم تأدية الحرس الخاص برئيس الجمهورية لصلاة الجمعة رغم توفر شروط وجوبها، فأجابه على البديهة قائلا: بحثت في هذا الموضوع ولم أجد فيه نصا صريحا، ولكن عندما تنظر معي إلى حديث الجماعة الذي رواه البخاري من طريق أبي هريرة، فإنه يؤكد على ضرورة حضور جميع المسلمين إلى المسجد وأداء الصلاة في الجماعة، ولكن المصلحة العامة تقتضي أن يتخلف عنها بعض الأشخاص المكلفين بمهام البحث عن الحطب، وتحريق البيوت، ولاشك أن تأمين حياة رئيس الجمهورية داخلة في مجال المصلحة العامة للمسلمين لما قد يترتب على الاعتداء عليه من زعزعة النظام والسكينة والأمن العام.
أطل علينا الشيخ حمدا ذات رمضان ببرنامج تلفزيوني هام عنوانه “وجاء بكم من البدو”، ناقش فيه الإكراهات التي تطرحها المدنية على مجتمع حديث عهد بالبداوة، حيث كان يرصد التحولات الثقافية بالمفهوم الأنتروبولوجي، وما يترتب عليها من الناحية الشرعية، وكان يكثر العزو للقرافي والشاطبي والعز بن عبدالسلام، وهو ما يعتبر إضافة نوعية للمراجع العلمية المعتمدة في الفتوى، وأتذكر أنه خصص إحدى الحلقات للعقيقة وما طرأ على طقوسها من إسراف وتبذير وقال بأسلوبه الطريف ” أَعِرْفُ بَعْدْ عَنْ إِيشِّيرْ مُسَمِّي ابْعِشْرِينْ كَبْشْ، أُ وَاحِدْ مُسَمَّ ابْكَبْشْ وَاحِدْ إِلَى خَاظْ اعْلِيهُمْ حَدْ يَلِعْبُ مَا يَفْصَلْ بَيْنَاتْهُمْ بِيهَلِّ مَا مَكْتُوبْ اعْلَ جِبْهِةْ كِلْ وَاحِدْ مِنْهُمْ عَدَدْ لَكْبَاشْ المْسمِّ بِيهْ”، ولاشك أن الشيخ حمداً يعتبر امتدادا للمنهج الفكري الذي بدأه الشيخ محمد المامي من خلال كتاب “البادية”، والذي يركز على فقه الواقع من خلال مناقشة النوازل التي تخص فقه الصحراء وخصوصيات الموريتانيين التي تحتاج إلى أحكام وفتاوي تسقط كبرى الشكل على صغرى الشكل انطلاقا من معطيات السياق المحلي.
خلال الفترة الانتقالية، أعدت الإذاعة الوطنية برنامجاً نخبوياً بعنوان “قضايا إسلامية معاصرة” كان يبث في شهر رمضان يعده ويقدمه الدكتور السيد ول اباه، وقد حاور فيه علماء أجلاء من بينهم الشيخ حمداً بن التاه، وقد أحدث ذلك البرنامج حراكا في الساحة الثقافية الوطنية وألقى حجرا كبيرا في تلك البركة الآسنة، وقد تميز حمدا كعادته بجدة الطرح، وجودة المعالجة، وقرب المأخذ، وبعد الغور، والخبرة في الفتوى ورد الشبه، ولو جمعت حلقات ذلك البرنامج بين دفتي كتاب لمثل إضافة نوعية للمكتبة الموريتانية.
جمع حمدا في إهاب واحد بين العلم والعمل، والعقل والنقل، والأمهات والمتمات، والملل والنحل، والأصول والفروع، والمقاصد والقواعد، والتخلي والتحلي، والصلاح والإصلاح، والإدارة والإرادة، والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا، واتبيظين واتشمش، واستدمين واتمحصير، والأدب الرفيع، والذوق السليم، والشعر المطبوع، ولغن المرفود، والفتح في أزوان واشطارت الكفان، اكِلِّتْ الغَسْلَ بَاطْ…
كان حمداً بن سيد بن التاه، عالماً عاقلاً من مجتمع عالم عاقل، والفقه لغة الفهم، كما كان مطلعا على النقاشات الفقهية المتعلقة بالأقضية المعاصرة، وملما بالاتجاهات المقاصدية وتوظيفها في معالجة القضايا التي تهم المسلم في حياته اليومية مثل المعاملات البنكية، وإكراهات الإقامة في الدول غير الإسلامية، وانتشار شبه الملحدين، وقد فهم مبكراً أهمية التواصل مع الشباب وضرورة احتوائهم وحمايتهمم من الغلو والتطرف، وتطوير الخطاب الموجه إليهم، فاعتمد على توظيف معارفه المحظرية، وإتقانه للمنطق وعلم الجدل في إنتاج فقه وسطي يركز على فقه الواقع، ويقارع الأفكار بالأفكار، وينطلق من خصوصيات المجتمع الموريتاني، وفي هذا السياق، فقد لجأت إليه العديد من البرامج الحكومية التي تهتم بمجالات لم يتعود عليها المجتمع آنذاك، كتنظيم الصحة الإنجابية ومكافحة مرض السيدا، كما ساعدت فتاويه العديد من البنوك المحلية في إعداد نظام المرابحة والقرض الحسن. ومن طرافة الشيخ حمدا أنني سمعته مرة يقول عبر الأثير، أنه لاحظ خلال فترة عمله مع فريق مشروع STOP SIDA أن الفقهاء أصبحوا أطباء، والأطباء باتوا بدورهم فقهاء.
التقيت بالشيخ حمدا بن التاه خمس مرات في عالم الشهادة، حيث يعود أول لقاء جمعني به إلى سنة 2000 ، عندما زرته في بيته العامر في حي “سوكوجيم”، وكنت آنذاك أحضر بحث تخرج لنيل شهادة “المتريز” في الاقتصاد بعنوان “تأثير العولمة على دول العالم الثالث”، وقد كان مفهوم العولمة آنذاك ما يزال في مرحلة التشكل، والمراجع المتعلقة به شحيحة، والانترنت غير متاح للطلبة، وقد فاجأني اهتمام الشيخ حمدا بالموضوع واطلاعه على حيثياته، حيث قال لي بالحرف إنه معجب بالموقف الفرنسي الذي يدعو إلى ضرورة المحافظة على القيم والثقافات المحلية ومنع انحسارها أما مد سيل القيم الغربية الجارف، وزودني بمقالة علمية تتضمن عشرين تعريفا لظاهرة العولمة ينطلق أصحابها من زوايا مختلفة، أما اللقاء الثاني فكان على هامش تظاهرة سياسية في مدينة المذرذرة، حيث قدم لي نصيحة ذهبية تتعلق بتوقيت حضور الشخص إلى الدعوات، حيث قال لي إن كنت مدعوا لاجتماع يتعلق بالعمل فاحرص على أن تأتي مبكرا لكي تأخذ من المهام ما يتواءم مع خبرتك واهتمامك، أما إذا كنت مدعوا في السياق الاجتماعي فاحرص على أن تأتي متأخرا حتى ينتبه الجميع إلى حضورك؛ فإن الشخص في الغالب يضبط من قدم عليه لامن أتى قبله.
أما اللقاء الثالث مع الشيخ حمدا فكان خلال زيارته لمنزل المهندس العالم عبد الرحيم بن أحمد سالم بن سيد محمد لتقديم واجب العزاء بعد وفاة فتى الفتيان بل بن ديدِ رحمه الله، حيث تطوع أحد الحاضرين يتقديم الحضور إليه، فكان يستحضر تعليقات على البديهة تتلاءم مع الصفات الكاشفة التي تميزت بها أسر الحاضرين، ولما وصل إليَّ الدور قال الشيخ حمدا “أهل أبُنْ وَخْيَرْتهُم دَرْسْ”، وقد أتحفنا في ذلك المجلس المقتضب بفوائد ونكت ولطائف يضيق المقام عن بسطها. أما اللقاء الرابع فكان في بيته العامر في حي “سانتر أمتير” حيث زرته يوم عاشوراء للتبرك من جهة، ولمقابلته من جهة أخرى في إطار بحث أعمل عليه يتعلق بسياق قصائد الألفيات واللاميات، وتطرقنا في ذلك المجلس لعلاقته بالعالم المؤرخ المختار بن حامد، وسياق اطلاعه على القصيدة اللامية وتفاعل التاه مع الرد،
يعود لقائي الأخير بفقيد الأمة العربية والإسلامية إلى سنة 2016، حيث زرته لأعرض عليه نبذة أعددتها حول “معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغات العرب”، فطلب مني أن أقرأها عليه، وأثنى على الفكرة والمنهجية، ونوه بأهمية الموضوع، وأملى على نجله السيد ببها تقريظا للمُصَنَّف وتزكية للمُصَنِّفِ، مازلت أحتفظ بها تبركاً وتيمناً وتفاؤلاً، وقد سألني في ذلك المجلس عن كتاب المبشر بالجنة الذي ألفه الجد اليدالي بن أبٌ رحمه الله، فأخبرته بأن لدي منه نسخة مرقونة، فطلب مني تزويده بها، وأخبرني عن علاقة محبة خاصة تجمعه به، ثم أمرني في ذلك المجلس بالكتابة عن موضوع ذي بال أرجو من الله أن يعينني عليه فهو وحده القادر على ذلك.
سال القلم، وطال المقال، ولم أتكلم حتى الآن عن فتوة حمدا بن التاه، ولا عن صلاحه وكشوفاته، ولا عن مساره الأكاديمي وتجربته الوظيفية، ولا عن وجهات نظره السياسية وعلاقته بصناع القرار، ولا عن جدولته للفقه، واختصاره للمقاصد والقواعد، ولم أسق نماذج من فتاويه ، ولم أستنطق بعض أشعاره، ولا أنظامه الجميلة مبنى ومعنى، ولم أستعرض زنكلونياته وجرادياته، ولم أتطرق إلى أدب وفتوة عصر “اجناكير” الذي ينتمي إليه، ولم أخصص فقرة من المقال للحديث عن أسرته الضيقة كعلاقته المتميزة بشقيقه العلامة بب، وصلاح والدته الشيخة لباب بنت تاج العارفين ببها، وإقامة والده في انيفرار ، والحقيقة أن الحديث عن الشيخ حمدا لايمكن أن يحيط به مقال تأبيني، بل يحتاج إلى تنظيم سلسلة مؤتمرات علمية يكلف فيها الباحثون المتخصصون بإعداد ورقات علمية محكمة، تسلط الضوء على إسهامات الشيخ الفكرية وإنتاجه العلمي والثقافي، فالشيخ كان نسيج وحده وحسنة من حسنات الدهر، وهبة ربانية من الله بها على أهل هذا القطر، فهدى الله بالعباد، ونفع به البلاد، ورد به الشباب عن سبل الغي إلى طريق الرشاد.
أنتهز هذه السانحة لتقديم واجب العزاء إلى الأمة الإسلامية والعربية والشعب الموريتاني، والإمارة التروزية والأحساء الإيكيدية، كما أخص بالتعزية دوحة أهل العاقل الموقرة، وأسر أهل حمداً وأهل ببّ بن التاه، كما أخص أخي الخبير الدولي عبدالوهاب بن حامد بن ببها بالتعزية، سائلا المولى عز وجل أن يرزقهم أجر الصبر وحلاوة التسليم، وأن يتغمد الشيخ برحمته فتحل غوادي المغفرة وسواري الرحمة على ضريحه، وِارَكَّكْ تِزِكِيهْ لِأَهْلْ لِخْيَامْ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.