الدولة أولا أم إعادة النظام؟ مجرد سؤال. وأقول الدولة أولا بعد مرور أكثر من نصف قرن، ولا شك أن في ذلك ما يدق ناقوس الخطر، وليس ما تزعم الأنظمة السلطوية بأنه كلام المعارضة والمارقين. خصوصا لمن يتابع التطورات الحاصلة في معظم الجمهوريات العربية، التي في معظمها كالجمهورية الإسلامية الموريتانية تأسست بعد المرحلة الاستعمارية وفي حقب زمنية متقاربة على العموم.
إن الخطر الذي ظل يهدد الجمهوريات العربية في نظر أنظمة ما بعد الاستعمار، هو المعارضات السياسية أو أي فكر وطني حر، وليس البطالة والفقر والجهل والتخلف. أما الآن فالخطر الذي يهدد الجمهوريات هو الشعوب (متعلمة كانت أم جاهلة)، وذلك بعد موت المعارضة والأحزاب والنخب الوطنية، ولا أقصد نخب ملء البطون، أصحاب المناصب والمكاسب، فهؤلاء جديرون بمغالطة الحكام وبدفاعهم عن الباطل.
أقول بعد موت ما يطلق عليه في أدبيات علم السياسية الوسائط، أي الأحزاب والمنظمات، وفشل المقاربات العمودية الصراعية لتدبير الشأن العام بين الأنظمة والمعارضات، وهو ما جعل الأنظمة السياسية تدخل في مواجهة مباشرة مع الشعوب.
إن هذا الكلام ليس من كلام المعارضة التي لم تعد موجودة، كما كان الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز يصف كلام خصومه، ويبرر عملية مسح الطاولة من الحياة المدنية التي بدون وجود استقلالية الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمثقفين مستحيلة، أي بعبارة حياد الدولة، والمقصود بحياد الدولة تجسيد الفكرة المجردة للمصلحة العامة، وليس لشخص أو حزب أو ما شابه ذلك.
فحراك الشعوب الذي بدأ أواخر عام 2010 وبدايات عام 2011 ولا يزال مستمرا في موجته الثانية التي شملت ما تبقى من الجمهوريات العربية، ليس حراكا تقوم به الأحزاب السياسية أو هيئات ومنظمات المجتمع المدني، حتى يسهل على الأنظمة ملاحقة القادة والزج بهم السجون كما كان يحدث في السابق، أو اللجوء إلى غلق مقار الأحزاب السياسية، فالأمر الآن مختلف، حتى لو اضطر بعض الأنظمة إلى إعلان ما يشبه الحرب، فلا يمكن للجيوش وأجهزة الأمن من الناحية العددية أو تواجه الشعوب: الآباء والأبناء والأمهات والزوجات، ونحن أمام تجارب معاشة.
وإن من السلبيات التي فجرها هذا الحراك عودة الأقوامية والقبلية والطائفية والاثنية والجهوية، رغم عدم معرفة الأيادي الخفية وراءها، والتي لا شك أنها أيادي غير نزيهة. إلا أنها ظواهر إن لم تكن تنذر بخراب الدول فلا يمكن أن تتعاش أو تتجاور معها، أي الدول الوطنية التي تقوم على فكرة القانون والمواطن والوطن. وهذا درس بالنسبة لمن فاتته الموجة الأولى والثانية.
وهو الدرس الذي ينبغي استخلاص منه عملية إعادة بناء الدولة وليس النظام. ولا شك أن ما نتابعه من تعيينات، ومن ترقيات وامتيازات، ومن حراك لرموز النظام السابق الفاسدين، ليس مؤشرا على ذلك.
أقول عملية إعادة بناء الدولة التي تم إهمالها منذ الاستقلال إلى اليوم، والتي من نتائجها المباشرة ما نشاهده من انشطار داخل المجتمع وتجزيئ المجزأ، سواء بفعل بعض العقول الرجعية المريضة، أو بفعل عدم الشروع العملي في تسوية عملية الانتقال، والتي لا يمكن أن تحدث في الوقت الحالي بعد الفشل في تحديث المجتمع من دون مصالحة وطنية وحوار جاد، وليس ما نتابعه من حوار “دبابة دبابة” بعبارة الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع الشهيرة.
لقد ظلت الأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم في موريتانيا (سواء عن طريق الانتخابات أو عن طريق الانقلابات)، شغلها الشاغل هو بناء النظام، فكل نظام جديد يعمل بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل تدعيم أركان حكمه، وخلق جماعته (قبائله وشيوخه)، وحزبه (حزب الدولة ورموزه)، وإن كان مما يحسب للأنظمة التي جاءت عن طريق الانقلاب، هو أنها تلجأ إلى القيام ببعض الإصلاحات، وذلك لتبرير فكرة الانقلاب، إلا أن ما يتعلق بفكرة إعادة بناء الدولة ظل غائبا تماما، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى ضعف شرعية تلك الأنظمة.
أقول ضعف الشرعية السياسية، ونحن الآن أمام نظام يحوز على شرعيات عديدة، شرعية المؤسسة العسكرية، شرعية الانتخابات، شرعية اجماع النخبة المدنية، فهل نكون أمام إعادة بناء النظام أم إعادة بناء الدولة ؟.