تُعرف الهوية على أنها مجموعة الانتماءات التي ينتمي إليها الفرد وتحدد سلوكه، أو كيفية إدراكه لنفسه. وفي سياق العولمة، فتح الارتباط الوثيق بين الهوية والسرد آفاقًا جديدة للبحث الأدبي، وقدم أفكارًا جديدة لفهم الإبداعات الأدبية للكتاب.
يعد الكاتب المصري إدوار الخراط من كتاب جيل الستينيات، وأحد رواد الكتابة التجريبية للروايات العربية. وعلى الرغم من أن إبداعاته الأدبية لم تتخذ الهوية موضوعًا مباشرًا، فإن اهتمام الكاتب المستمر بقضية الهوية يمكن العثور عليه في تفسيرات أعمق. تحاول هذه المقالة استخدام الهوية كلمة مفتاحية لاستكشاف كيف يعيد إدوار الخراط تشكيل الهوية المصرية المتنوعة والمرنة، وكتابة الإسكندرية المحلية، وبناء حداثة الأدب العربي.
الحوار بين الأقباط والمسلمين في الهوية الثقافية
يعمل إدوار الخراط على الحوار مع هويته القبطية والثقافة العربية الإسلامية المهيمنة، طوال الوقت تقريبًا، حيث يبني هويته الخاصة والهوية المصرية المتنوعة والمرنة عبر التفاوض على الاختلافات. في عام 2005م، نشر إدوار الخراط مقالة بعنوان «الأصالة الثقافية والهوية الوطنية»، حدد فيها نقده المزدوج للانفصالية والتجانس ولموقف التعددية الثقافية العربية. وفي هذا السياق، أكد إدوار الخراط أن الثقافة يجب أن تكون كلًّا عضويًّا، وعارض الميل إلى العزلة والانغلاق بين العناصر
الثقافية المختلفة.
يتجسد تركيز إدوار الخراط على التعددية الثقافية في وصفه للتنوع، ويعتقد أن التنوع عاملًا يساهم في الإثراء وليس عاملًا يقسم أو يُفرق. ومن وجهة نظره، الهوية الوطنية هي مجموعة من المكونات الثقافية الفرعية المختلفة، وتُعَرَّف على أنها التنوع في الوحدة. وعلى أساس هذا التنوع، دعا الناس إلى احترام الفردية، واحترام الاختلافات بين الشعوب والثقافات المختلفة، وتعكس هذه الهوية المتنوعة أصالة الثقافة المصرية لإدوار الخراط. استخدم الخراط وجهة النظر هذه لتوضيح فهمه لهويته الخاصة: «أود أن أعرف نفسي على أنني أنتمي إلى ثقافة فرعية، وهي ثقافة الأقباط المصريين، والتي أشعر في أعماق قلبي أنها لا تنفصل عن الثقافة العربية الإسلامية السائدة. ولا يمكن فصلها»(١).
تسلط تأملات إدوار الخراط حول الهويات القبطية والعربية الضوء على الهوية المصرية المتنوعة والمرنة. إن الهوية المصرية (القبطية والإسلامية) مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، بطريقة منفتحة ومتكاملة. تسلط روايات الخراط الضوء على علاقات الصداقة بين الأقباط والمسلمين من خلال الهوية الإقليمية للإسكندرية. في رواية «ترابها زعفران»، لا ينعكس التفاعل بين عائلة بطل الرواية ميخائيل وجيرانهم المسلمين في علاقات الجوار فحسب، بل في التبادلات الدينية أيضًا. ويتذكر ميخائيل أن والدته كانت تتبادل الطعام مع المسلمين خلال أعيادهم، ويتذكر كيفية مرافقته لجيرانه المسلمين من منزل إلى منزل حاملًا الفوانيس في شهر رمضان. وكيف شعرت أم ميخائيل بالجو المتسامح بين الأديان خلال الحوار مع جارتها المسلمة وهيبة، التي قالت لأم ميخائيل: «إن نبيهم أوصاهم بنا، وإن عيسى نبينا هو أيضًا رسول من عند الله مثل موسى وإبراهيم»(٢).
في رواية «رامة والتنين»، يمثل بطل الرواية ميخائيل والبطلة رامة، على التوالي، هويتين مختلفتين. يعبر ميخائيل القبطي والمرأة المسلمة رامة عن آراء مختلفة حول بعض القضايا المهمة في النظرة العالمية، وقد ساعد هذا الاختلاف في المعتقدات في إلقاء الضوء على وجهات نظر إدوار الخراط على الهوية الوطنية المصرية. وكثيرًا ما أظهر البطل المسيحي ميخائيل موقفًا قوميًّا مسيحيًّا قبطيًّا. على سبيل المثال، كان يعتقد أن كل المصريين أقباط وأن المسيحيين هم أنقى المصريين. أما البطلة رامة فهي تدحض آراء ميخائيل وتفضل القومية العربية المصرية كما حددها عبدالناصر. لكن تجدر الإشارة إلى أن «رامة والتنين» لا تؤكد الفصلَ بين القبطية والإسلامية، بل تستخدم صورة المرأة المسلمة (رامة) للتوسع فيما يسمى بالهوية المصرية؛ لأنها «تجمع في نفسها شيئًا من كل نساء حياته»(٣). رامة موجودة في مختلف الثقافات والتقاليد الدينية، فهي مريم العذراء في الثقافة المسيحية، وإيزيس في الثقافة الفرعونية، وديميتر في الثقافة اليونانية القديمة، وعشتروت في الثقافة السامية. ولذلك أصبحت رامة رمزًا مجازيًّا للمصرية في نظر ميخائيل، فقد تجاوزت الاختلافات في المعتقدات الدينية، ومثلت وحدة واستمرارية الهوية الدينية؛ لأن الأقباط والمسلمين تربطهم علاقة مشتركة في أرض مصر التي تنصهر فيها الهويات المتعددة.
القطيعة مع الاستشراق في الكتابة الحضرية
أكد الكاتب البريطاني لورانس دوريل في مقدمة رواياته «رباعية الإسكندرية» عن مدينة الإسكندرية أن كل ما في القصة خيالي، فقط المدينة هي الحقيقية. ويمكن ملاحظة أن المدينة أصبحت عنصرًا مهمًّا في الإبداع الأدبي. الكاتب الطليعي إدوار الخراط، هو شخصية بارزة في كتاب جيل الستينيات بمصر، مهووس أيضًا بالكتابة عن المدينة، وقد كتب «ثلاثية الإسكندرية» عن مدينة الإسكندرية. إن مفهومه الفريد للإبداع الأدبي وأسلوب كتابته التجريبية يعيدان إنتاج الصورة الحقيقية للإسكندرية، حيث ولد ونشأ، ويفككان منطق الخطاب الاستشراقي في كتابات الكتاب الغربيين عن الإسكندرية من خلال الممارسة الإبداعية المحلية.
تحدث إدوار الخراط بصراحة عن كتابة دوريل حول الإسكندرية: «فالإسكندرية عنده أساسًا هي وهم غرائبي، كأنما كتب لكي يرضي نزعة لا تنتزع عند الكاتب وعند قرائه الغربيين، في اختلاق وابتعاث خرافة راسخة الجذور عن الشرق»(٤). يعتقد إدوار الخراط أن دوريل رأى فقط مظهر الإسكندرية، واعتمدت كتاباته عن المدينة فقط على وجهة نظر الدبلوماسيين الأجانب ورجال الأعمال والمراسلين وغيرهم من أفراد الطبقة العليا في قمة الهرم الاجتماعي للمدينة، حيث كانت القصور والشقق والمكاتب، التي ظهرت في الرواية، تقع جميعها في المدينة الجديدة. فالمدينة المنعزلة عن المجتمع العربي تشوه المظهر الحقيقي للبيئة المكانية للإسكندرية إلى حد ما. تستخدم روايات دوريل في كثير من الأحيان الانقسامات بين السود والبيض، والعرب والأوربيين لتسليط الضوء على المعارضة الثنائية للعرق والثقافة، وتصوير المجتمع العربي في الإسكندرية بطريقة قبيحة. إن وصف دوريل لقذارة المجتمع العربي مغلف بمنطق خطاب استشراقي قوي. إضافة إلى ذلك، أثار وصف دوريل للتنوع الثقافي للإسكندرية انتقادات شديدة من إدوار الخراط. بالنسبة إليه، الحذف النصي لكلمة «العرب» بدلًا من كلمة «المسلمين» هو دليل على انفصال دوريل عن الثقافة المصرية المحلية الأصيلة.
ومن أجل منافسة الإسكندرية المشوهة في نظر الغربيين، استخدم إدوار الخراط أساليب الكتابة المحلية، محاولًا مواجهة منطق الخطاب الاستشراقي. والإسكندرية في نظر إدوار الخراط مدينة الذاكرة والخيال، تحمل ذكريات طفولته وصباه وشبابه. وفي «يا بنات الإسكندرية»، عبر عن حبه لأرض الإسكندرية القديمة والمقدسة على لسان بطل الرواية ميخائيل: «عرشتْ أشواق عشقي في مدينتي العظمى الإسكندرية الثغر المحروس الميناء الذهبي رؤيا ذي القرنين وصنيعة سوستراتوس المهندس العظيم ولؤلؤة قلبطرة الغانية الأبدية»(٥).
وزعم إدوار الخراط أنه الكاتب الوحيد في العالم العربي الذي كان شغوفًا بالإسكندرية، التي وصفها بالمكان الحقيقي والمتخيل. بالنسبة له، المدينة هي امرأة أبدية ذات تغييرات لا حصر لها، وبالنسبة له، المدينة ليست فقط خلفية الرواية، ولكنها أيضًا قوة إيجابية وبطل الرواية مع إمكانية الفعل، وله علاقة خاصة بالإسكندرية. فالإسكندرية ليست موقعًا جغرافيًّا جميلًا فقط، وليست فقط ساحة الالتقاء واصطدام الناس الذين يعملون ويحبون ويموتون على أرض الحياة اليومية، وليست فقط مستودع ترسب ثقافات وحضارات تاريخية عريقة وراهنة، هي ذلك كله.
إضافة إلى ذلك، بنى إدوار الخراط الطابع العالمي للإسكندرية من وجهة نظر الكتاب الشرقيين، ولا ينتمي هذا الطابع العالمي إلى نخب المدينة فحسب، بل يجب أيضًا التعبير عنها في روايات الفئات المهمشة والمحرومة.
التفاعل بين الأصالة والحداثة في المفاهيم الإبداعية
يلتزم إدوار الخراط بالكتابة التجريبية والتعبير الحديث للأدب بصفته روائيًّا وشاعرًا ورسامًا وناقدًا أدبيًّا، وقاوم مختلف الخطابات الاستبدادية بما في ذلك المركزية الأوربية، وأعاد فحص الأدب الراسخ بإدراك شديد للقواعد الجمالية، وبنائه النظري الأدبي المتين. وقد فتحت ممارسته الإبداعية أفقًا جديدًا للحداثة الأدبية العربية.
يرى إدوار الخراط أن حداثة الأدب لا علاقة لها بحقبة تاريخية محددة، فهي تحظى بخاصية فوق تاريخية تتمثل في المقاومة والاستفزاز وكسر التقاليد. أما الحداثة فهي عنده قيمة في العمل الفني، هي قيمة التساؤل المستمر. الحداثة عنده مرادفة للأصالة. ويرى أن حداثة الأدب العربي والتراث العربي مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، ويشمل هذا التراث عناصر من الأسطورة والفُلكلور و«ألف ليلة وليلة» والأنماط الزخرفية والمقامات والصوفية والهندسة المعمارية والخط. ويتناول إدوار الخراط عناصر الحداثة في شعر الشاعر العباسي أبي نواس، معتبرًا أنه عندما يندمج الوعي الحسي عند أبي نواس مع ما هو أبعد من الوعي الحسي، يصبح شعره تعبيرًا عن الزمن، وتساؤلًا متواصلًا. ولذلك يرفض إدوار الخراط تقليد الغرب ميكانيكيًّا، ويدعو إلى استخلاص العناصر من التراث المحلي لبناء شعرية حديثة في السياق العربي، وتحقيق نهضة أدبية إبداعية بتعابير فنية جديدة.
انعكست النهضة الأدبية الإبداعية لإدوار الخراط في «الحساسية الجديدة». وعلى النقيض من الصفات العابرة للتاريخ للحداثة الأدبية، اعتبر إدوار الخراط «الحساسية الجديدة» نتاجًا لحقبة تاريخية محددة. هناك فرق كبير بين «الحساسية الجديدة» و«الحساسية التقليدية». تتوافق «الحساسية التقليدية» إلى حد كبير مع النهج المحاكي للواقعية، التي تفترض أن هناك واقعًا خارجيًّا موضوعيًّا وثابتًا يمكن تقديمه من خلال الواقعية الاشتراكية للكاتب. يمكن إرجاع المرحلة الجنينية الأولى لـ«الحساسية الجديدة» إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وقد نضجت وتطورت بالكامل في أواخر الستينيات، وفي ذلك الوقت، قدمت مجلة «جاليري 68» بقيادة إدوار الخراط منصة مهمة للكتابة التجريبية.
يدعو إدوار الخراط إلى أدب حداثي لا يسعى إلى تصوير الواقع، بل إلى إيجاد حقيقته الشعرية الخاصة، معتبرًا أن السعي إلى الكتابة هو نوع من التساؤل المستمر والتعالي. تتخلى «الحساسية الجديدة» لإدوار الخراط عن منطق السرد الخطي، وتقدم المزيد من عناصر التجربة الإنسانية لتوسيع مفهوم الواقع، وتسعى جاهدة إلى إعادة الأحلام والأساطير والشعر إلى الواقع مع التفاعل مع النص من خلال التناص مثل الفُلكلور والأساطير وغيرها. فالنص يجعل السرد يحمل سمات عدم اليقين والواقعية السحرية.
يولي إدوار الخراط اهتمامًا بالغًا لاستكشاف التراث في الإبداع الأدبي، ويبني جسرًا بين الأصالة والحداثة من خلال إستراتيجيات سرد التناص. لا يهدف التنقيب عن التراث لإدوار الخراط إلى العودة إلى الماضي، بل إلى استخدام الأصالة موردًا لبناء حداثة الأدب العربي في سياق جديد، تنعكس إستراتيجيته في بناء الحداثة أيضًا في «الكتابة عبر النوعية» ضمن فئة «الحساسية الجديدة».
يرى إدوار الخراط أن «الكتابة عبر النوعية» هي علامة خاصة على الحداثة، فهي تكسر حدود الأنواع السردية المختلفة وتفتح تدريجيًّا البنية السردية. نصوص إدوار الخراط عبارة عن مجموعة من الأنواع المختلفة، بما في ذلك القصص القصيرة والروايات والسير الذاتية وقصائد النثر. وينعكس هذا الكولاج في عناوين النصوص، فمثلًا عنوان روايته «بنات الإسكندرية» مستوحى من أغنية شعبية، والعنوان الفرعي لـ«ترابها زعفران» هو «نصوص إسكندرية». ويعتقد أن «هذه النصوص كولاج قصصي يقارب التقنية التي يعرفها الفن التشكيلي؛ إذ تضم صورًا وشذرات شتى، قد تكون من خامات مختلفة ومن مصادر متنوعة، إلى بعضها بعضًا، فتعطي لوحة جديدة»(٦). إن سعي إدوار الخراط المستمر إلى «الكتابة عبر النوعية» يمنح النص توترًا غير مسبوق، ويجلب المزيد من الإمكانيات لتوقعات القراءة لدى القراء.
خاتمة
يستكشف إدوار الخراط الدلالات المتعددة الأبعاد لقضايا الهوية من خلال نظريته الأدبية المميزة وممارسته الإبداعية. وبما أنه كاتب مصري قبطي، فإن فهم إدوار الخراط للهوية الدينية لا يقتصر على هوية محددة ومنطق المعارضة الثنائية، بل إنه يعيد تشكيل الهوية المصرية التعددية والمرنة في الحوار بين الأقباط والعرب، بهدف بناء هوية دينية أكثر شمولًا. ولكونه إسكندريًّا وُلِدَ ونشأ في هذه الأرض، استخدم أسلوب الكتابة الموضعية لتفكيك أسلوب الكتابة الحضرية للكتاب الغربيين بمنطق الخطاب الاستشراقي، وإعادة بناء صورة الإسكندرية من منظور شرقي.
هوامش:
Edwar al-Kharrat, Cultural Authenticity and National Identity, in Diogenes, May 2005, p.24.
إدوار الخراط، «ترابها زعفران: نصوص إسكندرية»، دار الآداب، (بيروت، 1991م)، 10.
إدوار الخراط، «رامة والتنين»، دار ومطابع المستقبل، (الإسكندرية، 1993م)، 224.
إدوار الخراط، «إسكندريتي: مدينتي القدسية الحوشية»، دار ومطابع المستقبل، (الإسكندرية، 1994م)، 7.
إدوار الخراط، «يا بنات إسكندرية»، دار الآداب، (بيروت، 1990م)، 81.
إدوار الخراط، «إسكندريتي: مدينتي القدسية الحوشية»، 5.