المارون على أديم هذا الفضاء يؤسسون لإنسان موريتاني جديد، يتجاوز الحدود الضيقة لقريته الطينية، ليلتحم والي الأبد بإنسان القرية الكونية، ويعيش في عناق حميم مع “الحرية “الزرقاء”، ويحققون بذلك ما عجزوا عنه في واقعهم.
فلكل منا خيباته وطموحاته وآماله، ولكل ركن من وطننا المترامي الأطراف قصته الحزينة والجميلة في آن.
وعندما أقوم خلسة بنقل انطباعاتي ومشاعري عن محلة أنتمي اليها، الي هذا الفضاء باختلافه وتشابهه وتفاوته وتساويه، وانقساماته على نفسه، بهفوات مراهقيه، ونزغ ثواره، وصمت حكمائه، وتغريد صافاته وتفاصيل حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية…وأنا صادق فيما أنقل، يجب ألا أنتظر من الأخر السبراني أن يقاسمني سذاجتي الالكترونية، الى حد اعتمادها مرجعا، ولا أن يستقبلها كحصة تعليم ابتدائي، في مادة التاريخ أو الجغرافيا أو دراسة الوسط.
فنحن في صداقاتنا الافتراضية، نقيم مجتمعا آخر شبيها لمجتمعاتنا الواقعية ويتجاوزها ونفضح سرائرنا عن قصد، قبل أن تبلى، لنتشكل من جديد، كمنتمين لعالم “مارك “الأزرق، عالم البوح والسفور والغواية، عالم صنعته أفكار وأنامل مراهق من العالم الأول الصناعي بامتياز.
والصداقة الزرقاء، ليست انضماما لمجموعة، أو صفحة خاصة لتتلقى الجديد فيهما بشروطهما لا شروطك، وهما أي المجموعة والصفحة، قدر “مارك” أن يكون لهما صفة تجارية أو سياسية أو انتمائية، وان عجز السيد “مارك “، حتى الآن، أن أمارس حريتي الزرقاء في الانضمام الي المجموعات في عالمه، بفعل اتاحة امكانية اضافتي لأي مجموعة دون ارادة مني، منحني حرية تامة في الخروج منها بإرادتي.
وأما الحساب الذي تتم الصداقة من خلاله، فلا يشترط انسجام الصديقين ولا تنافرهما، وانما أتاح “مارك “امكانيات متعددة للرأي فيما تعرضه التدوينة من أفكار أو صورة أو صوت أو فيديو، فالتعليق لا يعني اعجابا والاعجاب ليس تعليقا بالضرورة، والمشاركة، رغم ما تحيل اليه الكلمة من معنى، لا يتوقف عنده بالضرورة فعل المشاركة، فقد أشارك لأنسف بكلماتي المصاحبة للمشاركة، التدوينة نفسها.
صداقتنا فرصة لأكتشفك، لا لأتبناك وتقودني، وأحسك لا أن تحتويني وتختزلني فيك وأفهمك لا أن أتماهى معك وتنوب عني، فلا نيابة في “الفيسبوك “، كما أن لا قيادة فيه.
قد يدون أحدنا على حسابه الخاص، بكلمات المنشور الحزبي، أو الاجتماع القبلي أو الصرخة الطبقية أو اللمة الأسرية، ليفاجئ اصدقائه ومتابعيه، بمكنونه وانتمائه الي دوائر لا يهتمون بها أصلا، فيمرر رسالة من خلالهم، غير معنيين بها، ويراها هدفا للتدوينة ويرونها تغرد خارج سربها.
يرصد الواحد منا آلاف الأصدقاء والمتابعين والمعجبين لحسابه في “الفيسبوك “، ويضع سياسة محكمة لتنمية هذا الرصيد، تعويضا عن الرصيد في الحساب البنكي أو التاريخي أو الاجتماعي أو السياسي.
ان الواقع الصعب والأوضاع المزرية التي نعيشها في دول العالم الثالث، والدول العربية والاسلامية تحديدا، جعلتنا حالمين لدرجة الطوباوية، فالظلم والغبن والحيف والتخلف والعزلة داخل أسوار الدولة القطرية ونمو التطرف وفلسفة الكراهية التي تنتج داخل هذه الدولة، كل ذلك مجتمعا شكل من عالم مواقع التواصل الاجتماعي، ملاذا للحالمين ببلاد على مقاس آلامهم وحرمانهم، يصنعونها ولو افتراضيا، يمارسون فيها هواياتهم ودكتاتوريا تهم ويهذون بأمجاد ويخبرون عن أعلام، غيبها تأخرهم هم عن ركب حضارة ومسار أمم.
الهوة تتسع بين المعتقد والواقع كل يوم، فالقرية الكونية، لا دين لها، ونحن نقدم النسخة الأقل رواجا والأكثر تشويشا لدين أراد الله له، أن يكون للناس كافة، وأن ينزله “عربيا مبينا “، وأهل الضاد، غير جذابين ولا منتميين في زماننا، الا لحرب الفرق والنحل، فلماذا لا ننتج اسلاما يفهم العصر ويسايره دون أن يحيد عن مداره الالهي، فهذا الخواء الكوني لا يطاق، وما له غير الاسلام دينا.
المحلة والدولة القطرية وكل ما هو اقليمي يتقلص، وكل ما هو كوني يتمدد، فلنرسم أحلامنا السبرانية، بمعايير كونية، من غير أن ننسى المكان الذي آوانا لنرسم من أرضه، أحلامنا الكونية تلك.
- مهندس و مدون موريتاني