في مصر، كانت هناك حالة من الكثافة المعنوية التي تصوّر وجود الشيخ محمد محمود اتلاميد الشنقيطي (1322 هـ / 1904م) بين ظهرانَي شيوخ الأزهر وعلماء مصر، فقد كان أولَ مُحاضر في الدراسات اللغوية في العصر الحديث بالأزهر وربما في المجال الأكاديمي العربي عموما؛ ذلك أن الشيخ محمد عبده أدخل إلى المنظومة العلمية بالأزهر كرسي اللغة الذي تم إسناده إلى الشنقيطي، وكرسي الأدب الذي كان يحاضر به الأديب المرصفي، وكان طه حسين قد تحدث عن درس الشنقيطي، في كتابه الأيام بقوله:
كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط
ضريبًا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث
سندًا ومتنًا عن ظهر قلب
وكانوا يذكرون إقامته في المدينة ورحلته إلى قسطنطينية، وزيارته للأندلس، وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك.. وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي أوروبا، وأنه لا يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق أكثر وقته في دار الكتب قارئًا أو ناسخًا”، وإلى جانب هذا النشاط العلمي داخل الأزهر، كان للريادة التي مثّلها ولد اتلاميد في مجال تحقيق التراث دور في الدفع بمكانته بين علماء مصر والمنشغلين بالمعارف الإسلامية والعربية، فالأصمعيّات (القصائد التي انتخبها الأصمعي)، بتحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون اعتمدت على نسخة الشنقيطي، وكذلك نصوص كتاب المفضليات تم الاعتماد في تحقيقها على نسخته، ومثل ذلك خزانة الأدب للبغدادي، وشواهد مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وتحقيق بنت الشاطئ لرسالة الغفران للمعري، ويتحدث نصر الهوريني في شرحه ديباجة القاموس المحيط قائلا:
قد بذلنا غاية ما يمكن في تصحيح هذا المطبوع
فقابلناه أولا على نسخة إمام أهل اللغة الخطير
وأستاذها الكبير المرحوم الشيخ محمد محمود ولد اتلاميد الشنقيطي
كما ينضاف إلى سجل نُسَخه التي كانت مرجعا ديوان الهذليين، وديوان القطامي وديوان الأفوه الأودي، وغير ذلك من الدواوين والمؤلفات.
وقد اكتست التحقيقات الشخصية والتصحيحات التي اضطلع بها أهمية مقدّرة، في المجال التراثي، فقد صوّب الأخطاء التي تضمنتها نسخة الأغاني للأصفهاني التي طبعتها بولاق، ويحتل إسهامه المهم في تحقيق ونشر كتاب المخصص لابن سيِده مكانة مميزة وقد بذل فيه جهدا مضنيا لدرجة أن الأديب أحمد تيمور يروي عنه قوله إنه “قتيل المخصص”.
وكما تحدث تيمور عن الشنقيطي، كان رموز من الساحة الثقافية والعلمية في مصر يسجلون تعليقاتهم حوله فرشيد رضا يصفه في مجلة المنار بـ”صفوة المحققين ونابغة اللغويين”، ويتحدث الأديب والكاتب أحمد حسن الزيات عن أول مرة التقى فيها الشنقيطي قائلا “لم أكن رأيت الشيخ من قبل..
وكان يلبس قفطانا أبيض من القطن، ويرتدي جبة دکناء من الصوف، ويعتم عِمامة مكية قد أرخى لها عذبة على ظهره.. ثم أخرجتُ القصيدة من جيبي وأخذت أتلوها في رجفة خفية وهيبة ظاهرة، والشيخ يستمع ولا يظهر على مخايل وجهه البربريّ ما ینم على استحسانه أو استهجانه؛ حتى بلغت إلى قولي منها :
رفعتَ دِرَفْسَ الدين بالعلم والتقى ** وصُنْت لسان العُرب بالحفظ والفهم
فقال: ما الدِّرَفْسُ ؟ قلت: الراية، فقال : أتحفظ شاهدا عليها ؟ قلت: نعم، قول البحتري :
والمنايَا موائلٌ وأَنُوشَرْو ** وانُ يُزجي الصفوفَ تَحْتَ الدِّرَفْسِ
فقال : أحسنتَ ، بارك الله فيك.
بجانب هذه الأنشطة المختلفة، ضمت المجالس واللقاءات والمناسبات العامة، في القاهرة، الشيخ الشنقيطي، وله فيها حضور مشهود يقود أحيانا إلى المناظرات العلمية والاختلاف في وجهات النظر حول القضايا المعرفية، ومن ذلك ما ترويه المصادر من أنه في أحد اللقاءات وبينما كان الحاضرون يناقشون موضوعات تتعلق بعلم الصَّرف ورأيه في صرف بعض الأسماء، تدخّل أحد السادة الحضور قائلا لابن اتلاميد ما مفاده هل تنصّرت بعدنا حيث نراك تلبس الخف الأسود فأجاب: “ما فعلت إلا السنة”، فقيل له إنه أُجمِع على كراهة لبس الخف الأسود فقال ابن اتلاميد ثبت في الصحيح أن النجاشي أهدى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم خفّين فلبسهما ومسح عليهما فما لون هذين الخفين؟ وقال إنه لا يمكن أن يتم الحديث عن الإجماع في مسألة دون استحضار ما يتعلق بها من المرويات كافة، ولكن ذلك كان مجرد شرارة سجال حول الخفين انتقل إلى الصحف فكتب منتقدو ابن التلاميد في الموضوع ورد عليهم وطالت فترة هذا السجال حتى سمى البعض في مصر ذلك العام “عام الخفين الأسودين”.
هذه إطلالة تجوس خلال الجغرافيا الثقافية والمعرفية، وليس ول اتلاميد بالطبع الشيخ الشنقيطي الوحيد الذي استقبلته مصر الكنانة، وكانت له صورة ذات صلة بهذا السياق، كما أن المحطة المصرية تعد حلقة ضمن حلقات متعددة في حياة الشيخ ولد اتلاميد.
المصدر الجزيرة ،الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.