برغم حكم الأمويين الأندلسَ ومنذ دخولهم إليها حتى زوال حكمهم، فإن المذهب الشيعي كان له دوره ونفوذه هناك، فكان يتسرّب عبر أكثر من رافد، حتى وصل الأمر إلى القيام بثورات شيعية عدة ضد الحكم الأموي في الأندلس والانفصال عن الخلافة وإقامة دولة مستقلة.
دخل التشيع الأندلس عن طريقين؛ أولهما طريق الأندلسيين الذين رحلوا إلى المشرق وأخذوا من الثقافة الشيعية، قليلاً أو كثيراً، لا سيما في العراق ومصر والمغرب، وثانيهما طريق بعض المشارقة الذين باشروا نشاطاً دعائياً في الأندلس أو قاموا بدور التجسس لمصلحة مواليهم الشيعة، حسب ما ذكر الدكتور محمود علي مكي، في كتابه “التشيع في الأندلس منذ الفتح حتى نهاية الدولة الأموية”.
نقل الثقافة الشيعية إلى الأندلس
يبدو أن أول من نقل شيئاً من الثقافة الشيعية إلى الأندلس، هو محمد بن عيسى القرطبي، المعروف بالأعشى (ت سنة 179 هـ). ذهب الأعشى إلى العراق مخالفاً بذلك زملاءه الأندلسيين الذين كانوا في ذلك الوقت يترددون على المدينة المنورة للتفقّه على يد مالك بن أنس وتلاميذه.
وبحسب مكي، كانت نتيجة دراسة الأعشى في العراق، أن نقل إلى الأندلس بعض كتب وكيع بن الجراح، الذي كان من أكبر المحدّثين الشيعة، وله كتب في الدفاع عن مبادئ الشيعة الزيدية.
دخل التشيع الأندلس عن طريقين؛ أولهما طريق الأندلسيين الذين رحلوا إلى المشرق وأخذوا من الثقافة الشيعية، قليلاً أو كثيراً، لا سيما في العراق ومصر والمغرب، وثانيهما طريق بعض المشارقة الذين باشروا نشاطاً دعائياً في الأندلس
وممن رحل إلى العراق بعد ذلك، عابس بن ناصح الثقفي، وهو شاعر أوفده الخليفة الأموي عبد الرحمن الأوسط سنة 201 هـ، في التماس الكتب القديمة التي تتناول العلوم المختلفة من طب ونجوم وغيرها، وكان رفيقاً في رحلته وحياته الدراسية في المشرق ليونس بن إلياس البرغواطي، الذي طلب علم النجوم والكهانة والجدل.
ويذكر مكي، أن أمثال هؤلاء العلماء لم يجاهروا بنزعة شيعية صريحة، وإن نقلوا بعض ألوان التفكير الشيعي.
ولكن انتشار الدعاية الفاطمية في نهاية القرن الثالث الهجري، جعل بعض العلماء الأندلسيين يعتنقون هذا المذهب، ومن هؤلاء محمد بن حيون الحجاري (ت 305 هـ)، الذي لم يكن يذهب مذهب مالك، وكان معاصروه يتهمونه بالتشيع، ولكن يبدو أنه كان حريصاً على كتمان مذهبه حتى لا يتعرض للاضطهاد من جانب الفقهاء، عملاً بمبدأ “التقية” الذي كان أصلاً من أصول التشيع، وهو كتمان العقيدة من أجل صيانة النفس.
الفاطميون ونشر التشيع في الأندلس
يذكر الدكتور محمد مهدي علي الشُبّري في دراسته “مواجهة الأمويين للدعوة الإسماعيلية في الأندلس” أن الفاطميين ما أن استقروا في بلاد المغرب حتى توجهت أنظارهم إلى الأندلس، خاصةً أنهم أدركوا أنه لا يمكن السيطرة على المغرب دون السيطرة على الأندلس، وما دون ذلك سيجعل المغرب في مواجهة عسكرية دائمة معها، نظراً إلى الاختلاف الفكري والمذهبي والسياسي بين الفاطميين والأسرة الأموية الحاكمة في الأندلس.
كما أن القرب المكاني بين المغرب والأندلس، وانفتاح الساحل المغربي على الساحل الأندلسي من جهة، وتمرس الأندلسيين بفنون الحرب البحرية من جهة أخرى، ستجعل من بلاد المغرب وسواحلها هدفاً سهلاً لتلك القوات، لذا كانت محاولة نشر الدعوة الشيعية هناك إحدى الضرورات من أجل دفع هذا الخطر.
يبدو أن أول من نقل شيئاً من الثقافة الشيعية إلى الأندلس، هو محمد بن عيسى القرطبي، المعروف بالأعشى، فذهب إلى العراق مخالفاً بذلك زملاءه الأندلسيين الذين كانوا في ذلك الوقت يترددون على المدينة المنورة للتفقّه على يد مالك بن أنس وتلاميذه.
ومن الأساليب التي استخدمها الفاطميون في نشر دعوتهم، المناظرات التي دارت غالبية موضوعاتها حول تفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة، وتفضيل السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول محمد على سائر زوجات الرسول، كما ذكر الشُبّري.
كما اعتمد الفاطميون على التجسس لمعرفة أحوال الأندلس ومواطن الضعف فيها، وكان جواسيسهم يخفون أهدافهم الحقيقية بستار من المصالح المشروعة، كالتجارة وطلب العلم أو السياحة أو غيرها من المصالح التي تمكّنهم من دخول البلاد والتنقل بين مدنها.
ومن أبرز الجواسيس الذين أنفذهم الخلفاء الفاطميون، أبو جعفر بن أحمد بن هارون البغدادي، الذي عاصر عبد الله بن الحسين المهدي، مؤسس الخلافة الفاطمية وابنه القائم بأمر الله الفاطمي، حيث تردد مرات عدة على الأندلس مستتراً بستار العلم، قاصداً التجسس لصاحب المهدية، وقد وضع له تقريراً مفصلاً عن أوضاع الأندلس السياسية والاجتماعية والدينية.
ومن الوسائل غير المباشرة التي اتّبعها الفاطميون، طريقة معاملتهم الجيدة للحجاج الأندلسيين الذين كانوا يمرّون بالمغرب، إذ كانوا مادةً أو منفذاً حاول الفاطميون استغلاله من أجل نشر الدعوة الشيعية بينهم.
المواجهة الفكرية للمذهب الشيعي في الأندلس
ويذكر الشُبري، أن فقهاء المذهب المالكي وقفوا وقفةً قويةً أمام تيار المذهب الشيعي القادم من بلاد المغرب، وكان أبرزهم في هذا المضمار الفقيه القرطبي يحيى بن عمرو الذي استوطن القيروان في ما بعد، وقد تبع فقهاء الأندلس وحكامها عامة أهلها الذين عبّروا عن سخطهم وعدائهم الشديد لشيعة المغرب.
ونظراً إلى الشكوك التي حامت حول النسب الفاطمي، فإن أمويي الأندلس لم يتوانوا لحظةً واحدةً عن الطعن فيه، فالخليفة الأول عبد الرحمن الناصر لدين الله (277-350هـ) أحسن استغلال قضية النسب واستعملها سلاحاً دعائياً ضد أعدائه الفاطميين، أما ابنه الحكَم (302-366هـ)، فألّف كتاباً لهذا الغرض عنوانه “أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب”.
كما سعى الحكَم، بعد توليه الخلافة، إلى مطاردة أنصار الشيعة الإسماعيلية، وخير دليل على ذلك محاكمته لأحد دعاة المعز لدين الله الفاطمي، ويُدعى “أبو الخير”، فقد أمر بإعدامه في العاصمة، بعدما وُجهت إليه تهمة الزندقة والخروج على مذهب أهل البلاد، وإظهار ميوله إلى المذهب الشيعي، والقيام بحركة دعائية نشطة داخل الأندلس لفائدة الفاطميين الشيعة.
مراكز التشيع في الأندلس
تركز التشيع في بلاد الأندلس في مركزين؛ الأول هو البيوتات والعوائل العربية التي كانت تدين بنصرة أهل البيت، وكان معظم أهلها من العراق واليمن، كما كان فيها عدد من قواد الجيش الذين اشتركوا مع علي بن أبي طالب في مواجهات الفتن والحروب التي ظهرت في زمانه، وهم من التابعين، ومن هذه الشخصيات والبيوت العربية حنش بن عبد الله الصنعاني، وعبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، والحسين بن يحيى بن سعيد بن بعباد الخزرجي، بحسب مكي في كتابه المذكور آنفاً.
والمركز الثاني للتشيع هو القبائل البربرية (الأمازيغ). فكان شمال إفريقيا والأندلس أرضاً خصبةً لانتشار التشيع، وذلك لأن التشيع منذ نشأته اتخذ صبغةً مضادةً للعصبية العربية التي سلكتها الدولة الأموية. وكما أن التشيع في المشرق قام عليه الموالي من الفرس، فكذلك في المغرب قام عليه الموالي من البربر.
وتردد صدى التشيع في الأندلس لأول مرة بين صفوف البربر الذين كانوا يشكلون غالبية الجيش الإسلامي الذي فتح الأندلس، خاصةً عندما استأثر العرب دونهم بمغانم الانتصار وثمراته، كما أخذوا المدن والأراضي الخصبة والسهول، بينما استوطن البربر المناطق الجبلية والهضاب المرتفعة التي كانت تُعرف بـ”الجوف”، وكذلك المناطق الجبلية في جنوب شرق الأندلس في كورة (قرية أو منطقة) البيرة.
ويذكر مكي أن هذا التعامل غير المنصف من قبل الأمويين أثار الغضب والأحقاد عليهم، لذا كانت المناطق البربرية ميداناً لجميع الثورات الشيعية في الأندلس.
ثورات الشيعة في الأندلس
ويذكر الدكتور كاظم شمهود طاهر، في كتابه “الشيعة في الأندلس… الخلافة الحمودية العلوية”، أنه بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق أصبح الجو ملائماً لكي تثمر الدعوات الشيعية التي بدأت تنتشر منذ زمن بعيد في شمال إفريقيا والأندلس، خاصةً بين قبائل البربر، لذا انتشرت ثورات الشيعة في الأندلس ضد الأمويين، وكانت تحمل الأسباب نفسها التي كانت عند العلويين في المشرق.
ومن بين هذه الثورات، ثورة عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، وهو حفيد عمار بن ياسر صاحب علي بن أبي طالب الذي قُتل (أي عمار بن ياسر) في معركة صفين. يروي طاهر أن عبد الله كان أحد قوّاد موسى بن نصير، في أثناء فتح الأندلس، وواحداً من البيوت العربية الشيعية التي يعود لها دور في انتشار التشيع في الأندلس، وقد تولى عبد الله ولاية البيرة، وثار على عبد الرحمن الداخل عام 143 هـ، وحدثت بينهما معركة كبيرة انتهت بانتصار عبد الرحمن ومقتل ابن سعيد.
ومن أهم هذه الثورات الشيعية ثورة شقيا بن عبد الواحد المكناسي، الذي قاد أول ثورة شيعية عارمة في شرق الأندلس ضد الأمير عبد الرحمن الداخل في الفترة من سنة 151هـ إلى 160هـ، وامتدت ثورته ما بين ماردة وقورية غرباً إلى الثغور ووادي الحجارة وقوينقة شرقاً، أي جميع الهضبة الوسطى.
وبحسب طاهر، لم تفلح الحملات العسكرية على مدار تسع سنوات في هزيمة شقيا، بل أنهكت الدولة الأموية اقتصادياً وبشرياً، خاصةً أن القبائل البربرية كانت تحيط به، لذا لجأ عبد الرحمن الداخل إلى مؤامرة داخلية قام بها اثنان من أصحاب الثائر للقضاء عليه، وهما أبو معن داود بن هلال، وكنانة بن سعيد، حيث انقضّا عليه ذات يوم وقتلاه واجتزّا رأسه وحملاه إلى عبد الرحمن في قرطبة، وبذلك انتهت ثورة شقيا سنة 160هـ.
ومن الثورات الشيعية أيضاً، تلك التي قام بها الحسين بن يحيى الأنصاري، الذي ثار في سنة 160هـ في سرقسطة، وخلع طاعة عبد الرحمن، واستمرت ثورته سبع سنوات، استطاع خلالها أن يسيطر على مناطق كثيرة، لكنها انتهت عندما سار عبد الرحمن الداخل بنفسه إلى سرقسطة، وحاصرها بشدة وضربها بالمنجنيق ضرباً عنيفاً، حتى هدم أسوارها واقتحمها عنوةً وقبض على الحسين وجماعة من أصحابه وقتلهم جميعاً وشرّد الكثير من أهلها، كما روى طاهر.
وهناك ثورة أحمد بن معاوية بن هشام، المعروف بـ”القط”، الذي ثار سنة 288هـ، في زمن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الداخل، وكانت ثورته في منطقة الجوف، وتحديداً في أحواز مدينتي طليطلة وطلبيرة، وقد تأثر بالدعوة الفاطمية تأثراً كبيراً ودعا إلى التشيع، وادّعى أنه المهدي المنتظر، وأنه جاء لإصلاح هذه الأمة بعدما عمّ فيها الجور والفساد، فالتفّت حوله جموع غفيرة من البربر، وأعلن الجهاد ضد النصارى، وقدم إلى مدينة ثامورا لفتحها، وكتب إلى ألفونسو الثالث ملك ليون وجليقية وأستورياس (ممالك مسيحية)، رسالةً عنيفةً يدعوه فيها إلى الإسلام وينذره بالويل إذا أبى.
وكان ألفونسو يومذاك، مع قواته، على مقربة من ثامورا، فسار إلى لقاء المهدي وقواته، ودارت المعركة في مخاض نهر دويرة أمام أسوار ثامورا، فهزم ابن القط جيش ألفونسو أولاً، وارتدوا، وحاصر المهدي ثامورا.
غير أن خيانةً حدثت في جيش المهدي في أثناء الحصار، حيث انسحب زعماء البربر بقواتهم خشيةً من تفوقه عليهم وغدره بهم، وصمد ابن القط مع من بقي معه، ثم نشبت معركة بينه وبين النصارى انتهت بقتل ابن القط وتمزيق قواته، واجتُزّ رأسه، وسُمّر فوق أحد أبواب ثامورا، وكان ذلك في شهر رجب سنة 288هـ، كما روى طاهر.
الدولة الحمودية الشيعية
استمرت الثورات والانتفاضات في الأندلس إلى أن قامت الدولة الحمودية الشيعية. وينقل طاهر عن المؤرخ ابن الخطيب الأندلسي، أن بعض المؤيدين لمحمد بن هشام، الخليفة المقتول، أرسلوا رسالةً إلى علي بن حمود أمير سبتة، تتضمن وثيقةً منسوبةً إلى هشام المؤيد بخطه، عهد فيها بأمر الخلافة بعده إلى علي حمود، وتعهدوا بتذليل الصعاب وهوّنوا له أمر الاستيلاء على الخلافة.
تردد صدى التشيع في الأندلس لأول مرة بين صفوف البربر الذين كانوا يشكلون غالبية الجيش الإسلامي الذي فتح الأندلس، خاصةً عندما استأثر العرب دونهم بمغانم الانتصار وثمراته
وتقدّم ابن حمود واشتبك مع جيش سليمان المستعين الذي كان يصارع محمد بن هشام على الخلافة، وهزمه، ودخل قصر قرطبة في سنة 407هـ، وبويع له بالخلافة من القبائل العربية والبربرية، وتلقّب بالناصر لدين الله، وبذلك تم تأسيس أول دولة علوية شيعية في الأندلس يُخطب باسمها على منابر الأندلس.
وبحسب طاهر، يذكر المؤرخون أن ابن حمود كان موفّقاً في سياسته الحديدية، إذ عمّ العدل والأمان قرطبة، فأحبّه الناس، وكان من بين معاونيه جماعة من أولياء الخلافة السابقين، مثل أبي حزم بن جهور وأحمد بن برد وغيرهما، وقد أخطأ ابن حمود في اتخاذ هؤلاء الأمويين معاونين له، لأنهم يحملون العداء للخط العلوي، فتآمروا عليه واغتالوه في سنة 408هـ، ثم تولى الخلافة من بعده أخوه القاسم بن حمود، وبعد ذلك حدثت فتن بين أبناء العائلة العلوية الحاكمة، ما تسبب في سقوطها.
وحكمت دولة بني حمود نحو نصف قرن (من سنة 407 إلى سنة 456هـ)، واعتمدت على قبائل البربر الشيعية في سلطانها وحكمها، وكان من أبرز هذه القبائل قبيلة صنهاجة وزعيمها زاوي بن وزيري، التي كانت القوة الضاربة لكلّ الخارجين والمتمردين على خلافة بني حمود العلوية.
ويذكر طاهر أن الدولة الحمودية خلقت جوّاً شيعياً في كل أنحاء الأندلس، حيث انتشر الفقه والأفكار الشيعية، كما ظهر فيها عدد من العلماء والأدباء والمفكرين، منهم الشاعر عباد بن ماء السماء، الذي كان علماً من أعلام الأدب الشيعي في الأندلس أيام بني حمود، كما انتقلت كتب الشيعة من المشرق إلى الأندلس، فأثّرت على التفكير الديني والسياسي والأدبي والفلسفي. وانتشرت في الوقت نفسه الألقاب والأنساب الشيعية وأصبح الانتماء إلى المذهب الشيعي ظاهرةً حضاريةً يفتخر بها أهل الأندلس.
وبعد سقوط الدولة الحمودية بدأت الأندلس مرحلةً أخرى من حياتها تُسمّى مرحلة حكم الطوائف، حيث بدأت تتفكك الولايات وتنفصل، واستقلّ فيها الولاة، وأخذ كل واحد يحكم إمارةً مستقلةً، كما انتشرت الحروب والنزاعات بينهم، وكان من ضمن هذه الإمارات المستقلة إمارات بربرية شيعية، منها إمارة بني مناد في غرناطة، وإمارة بني يفرن في رندة، وإمارة بني خزرون في أركش، وإمارة بني دمّر في مورون، وغيرها.
المصدر : رصيف 22