
كتب محمد يحيى ول اجيد ول الشيخ
في تكانت حيث تتماوج الروابي والهضاب والأدوية تحت سماء تتخللها مزن خفيفة تقف التمايه والطلحايه شامختين كشاهدين على تعاقب الفصول ومرور الأزمان . هناك حيث يتداخل اللون الذهبي في أزهار التمايه (السلم ) مع خضرة الطلحايه ( الطلح ) ينشأ مشهد من التباين البديع ، وكأن الطبيعة نفسها أرادت أن ترسم لوحة لا يكتمل أحد طرفيها إلا بالآخر .
حين يحل الربيع تكتسي التمايه حلة من نور تنبثق أزهارها الصفراء الذهبية وكأنها شعلة معلقة في فضاء الطبيعة تهدي العابرين درب الجمال وتسحر الحواس بروائحها التي تعجز كل عطور العالم عن مجاراتها . إنها روائح تخدر الحواس وتسمو بالنفس والإحساس إلى عالم سحري من الجمال الخالص خاصة إذا كنت على شاهق من جبال تكانت حيث تنداح الرؤى وتملأ أقطار نفسك تلك المشاعر المقدسة النابعة مما تبدأ الأشياء .
الجلوس تحت ظل التمايه في يوم ربيعي هو أشبه بتجربة روحية إذ تشعر وكأنك تلامس جوهر الأشياء حيث لا وسائط ولا حجب فقط أنت والطبيعة في حوار أبدي . إنها ليست مجرد شجرة بل كيان حي ينتمي لعالم الأزل كأنه امتداد لروح الأرض التي تنبض بالحياة في صمت .
وعلى مقربة منها تقف الطلحايه في هدوء تظلل الأرض بأغصانها الوارفة وتثقلها ثمار الخروب التي تتدلى كأنها تمائم الحكمة التي يحملها الزمن على كتفيه . منظر الخروب بلونه الأخضر وحلقه الدائرية يمنحها وقارا لا يضاهى فهي ليست فقط شجرة تثمر بل رمز للعطاء الهادئ الذي لا يستجدي الانتباه .
اذا دققت النظر في اعلا الطلحاية ترى ثمار تنبهره
وكانها تأتي من اللا مكان : انها شجرة لعلنده ( العلندى ) في عناقها الابدي مع الطلحاية حيث تتشبث بها بقوة وتحتضنها بلهفة فتمايلهما الريح كغانيتين تمشيان الخيزلى .
الناظر إليها لا بد أن يرى ولو بعين خياله ذلك الراعي الذي يحمل ( أميتاره ) على كتفه يتبعه القطيع حيث يمسك برأسه المعقوف غصنا من الطلحايه ويهزه هزا عنيفا فيتساقط الخروب على الأرض ويمشي القطيع اليه مشي الهيدبى فيتحلق حول تلك المائدة الفاخرة وكان الجميع ينشد مع المتنبي : ألا كل ماشية الخيزلى @ فدى كل ماشية الهيدبى
إنه مشهد يعيد إلى الأذهان أولى لحظات الانسجام بين الإنسان والطبيعة عندما كان العالم أكثر بساطة وأكثر صدقا .
ما يميز التمايه والطلحايه ليس فقط جمالهما المادي بل العلاقة العميقة بينهما وبين الوجود نفسه . التمايه بزهورها الذهبية ورائحتها الأخاذة تمثل الغذاء الروحي للإنسان فهي توقظه من سباته العاطفي ، ترفع وجدانه إلى سماوات لا تدرك وتملأ روحه بالدهشة والحب . أما الطلحايه فهي المادية الحكيمة تقدم ثمارها للحيوان والإنسان معا بلا ضجيج أو طلب للمقابل وكأنها تشير الى ان العطاء الحقيقي ليس في الكلمة بل في الفعل .
التمايه والطلحايه رمزان خالدان لجمال تكانت بل مفهومان فلسفيان إذ إن تيدشمه (أزهار التمايه) غذاء لروح الإنسان وهي نافعة أيضا للحيوان أما الخروب وتنبهره فهما غذاء للحيوان ونافعان للإنسان .
في هذا الامتزاج نرى توازن الطبيعة في أجمل صوره : الجمال والضرورة ، الروح والجسد ، الرائحة والطعم ، العلو والثبات . كأنهما وجهان لحقيقة واحدة تؤكد أن الإنسان لا يعيش على الخبز وحده بل يحتاج أيضا إلى ما يغذي روحه ، إلى ما يجعله يتوقف للحظة ، يستنشق عبير الوجود ويستمع إلى لغة الأشياء التي لا تقال بالحروف .
ما أروع أن تجلس وقت الضحى في الربيع تحت ظل طلحايه تكاد تعانقها تمايه في الواجهة تماما والسماء تتخللها مزن خفيفة وهي تكاد تلامس الأرض بل تلامسها بالفعل حيث ينسرِح عارض خفيف على منحنى الكُدى . هناك حيث تنسحب الحروف ولا يبقى إلا الإحساس الخالص حيث تصغي الى حديث تيدشمه والخروب وتنبهره ، حيث تتعلم أن الطبيعة تتحدث ولكن بلغة لا تكتب بل تحس .
سلام على تكانت وسلام على تلك اللحظات التي تنبض فيها الطبيعة بالحياة فتخاطب أرواحنا دون وسيط . سلام على كل ذكرى خالدة تنبعث من قلب الأرض وتحيا في وجدان من يعشقون الجمال . سلام على التماية والعلندايه والطلحاية ، وسلام على تنبهره وتيدشمه والخروب .
محمد يحيى ول اجيد ول الشيخ، مدير العلاقات الخارجية بالجمعية الوطنية سابقا