
نتأمل اليوم نصا شعريا كثير التداول أيضا، وننفذ لدواخله عكس ما كان منا مع نص موضوع “تأملات في الشعر الحساني (1)، والذي ركزنا النظر فيه نحو نسبته لصاحبه وتوقفنا، على أمل العودة إليه من الداخل في قابل الأيام.
النص اليوم “عند أنخيل أمحيميد.. ” للشاعر الفحل محمد ولد الشيخ أحمد ولد آدبّ (1898-1958)، وولد آدب هو سلطان العارفين في الثقافة الحسانية، ألبس الله شعره لبوس قبول قل نظيره، قال عنه عميد الأدب الشعبي محمدن ولد سيد ابراهيم في كتابه “تهذيب الأفكار “: {… ولد آدبّ شاعر الأولياء وولي الشعراء، شعره لا يُفرّقُ الجماعة (لمحموله الأخلاقي)..}.
له ديوان مطبوع سنة 2012، حققه وعلق عليه المرحوم الدكتور حم ولد آدب وكان شعره وحياته موضوعي دراسات جامعية كان باكورتها رسالة تخرج الأستاذ الشيخ البو ولد أزناكي من المدرسة العليا للتعليم ENS بنواكشوط، وكانت في الأصل باللغة الفرنسية، طورها وأخرجها في كتاب سنة 1993باللغتين العربية والفرنسية.
و “عند أنخيل أمحيميد.. ” في ديوان ولد آدب نصين الأول في “لبير” “عند أنخيل أمحيميد دار.. ” والثاني “عند أنخيل أمحيميد (اگبيلْ ) ” ، وهذا النص الأخيرهو موضوع تأملاتنا اليوم .

أولا :
النص بصيغته المتداولة:
عند انخيلْ امْحَيْمِيدْ (اگبيلْ ) طيتْ (ٱمْگِيلْ)1(ؤحانَيْتْ)(الليلْ)A
وٱرْكَبتْ ؤطَيتْ ٱبلا تعطيلْ عندْ ٱنخيلْ أَجّالَ مُطلاگْ
فَِالتّطْراگ (ؤفات )ٱفْذِ الحيلْ (الليلْ )Aؤلا گِبْلِتْ لَخلاگْ
كُونْ ٱفْجَالِتْ لعناگ (أَمْگيلْ) 2 تعطيهْ ؤهاذَ حالْ اتفاگ
ما كارهْتُ لَخلاگ أََنْخَيلْ ٱمْحَيْمِيدْ ؤجالتْ لعْناگ
وذَ ما فيه الوكرْ إحياكْ إيلَ ذاكْ افگايعْ واخلاگْ
منُّو لاهِ تظياگْ أيّاكْ عاگبْ ذاكْ امّلِّ تِظياگْ
————-
• (اگبيلْ ) تستخدم في الحسانية كظرف زمان – كما أفهمها – للإشارة الى زمن داخل الليل الواحد أو النهار الواحد ؛فنقول للإشارة ونحن في الليل ،الى أوله (أكبيلْ أوّلْ الليل ) أو (اگبيل المغربْ )؛كما نقول ونحن في النهار للإشارة الى جزء مضى من نفس النهار اگبيلْ ايضاََ ؛ونقول أگبيل الدحميس ونحن في أول الليل ولا نقول أكبيل الفجر ونحن في أول النهار .
اذاً (أگبيل ) في نهاية التافلويت الأولى من الطلعة تُهمل وحدات زمنية ،تأتي بعدها في النص ،تؤطر رحلة الشاعر زمنياً ، وتُفرغها من دلالتها:
عند انخيلْ امْحَيْمِيدْ (اگبيلْ )1 طيتْ (ٱمْگِيلْ) وهذا في بداية رحلته ليمضي ليل الرحلة الوحيد – عكس مقيليها – ويضبط هذا الليل بشكل منطقي بألفاظ واضحة فيقول:
(ؤحانَيْتْ الليل …..ؤفات افْذِى الحيل اللّيلْ ) يشير الشاعر الى (ليل)واحد وبألفاظ متباينة الدلالة ،الأولى في استقباله والثانية في استدباره وبعد استكماله ، لينهي رحلته بعد مقيله في نهاره الأول وليله بمقيل ثانٍ :
ؤلا گِبْلِتْ لَخلاگْ
كُونْ ٱفْجَالِتْ لعناگ (أَمْگيلْ) 2.
بعد مقيله الثاني – في نظري -يترتب عليه وصف مقيله الأول في يومه الأول من الرحلة الشعرية بغير لفظة (اگبيلْ) .
———
اذا صح ما ذهبتُ اليه فالراوي المأمون لهذا النص والذي سادت روايته وأعتمدت كرواية وحيدة للنص رغم مخلفاتها من الأسئلة العالقة منذ زمن طويل ،أسئلة على مستوى اللغة مثل :هل ل(أگبيل ) في الحسانية استعمالات غير الدارج منها كما مر بنا؟، – (أگبيل ) تستخدم في الحسانية – كما أفهمها – للإشارة الى زمن داخل الليل الواحد أو النهار الواحد – ، أم هل علينا أن نفهمها بدلالة قبل ، ونصغرها لتصبح قبيل،كما في الفصحى،ويُفتح بها الزمن ليستوعب ما قبلها من غير حصر، وهذا بعيد جدا .
وأسئلة على مستوى المعنى هل الراوي المأمون للنص قد استعجل ورود (اگبيل) في التافلويت الأولى من النص ،مما سبب تشويش عال للمتلقي ،تشويشا أثر في دلالة اللفظة وأربك الزمن الشعري للنص ، ومن هنا بدأت تأملاتي وبنيت فرضيتي عن الراوي للطلعه لا صاحب الطلعه .
ثانيا:
النص كما بدا لي :
عند انخيلْ امْحَيْمِيدْ ٱمْگِيلْ 1
طيتُو فاتْ، ؤحانَيْتْ الليلْA
وٱرْكَبتْ ؤطَيتْ ٱبلا تعطيلْ
عندْ ٱنخيلْ أَجّالَ مُطلاگْ
فَِالتّطْراگ ؤفات ٱفْذِ الحيلْ
الليلْ Aؤلا گِبْلِتْ لَخلاگْ
كُونْ ابْجَالِتْ لعناگ اگبيْلْ
لَمْگِيلْ2، ؤهاذَ حالْ اتفاگ
ما كارهْتُ لَخلاگ أََنْخَيلْ
ٱمْحَيْمِيدْ ؤجالتْ لعْناگ
وذَ ما فيه الوكرْ إحياكْ
إيلَ ذاكْ افگايعْ واخلاگْ
منُّو لاهِ تظياگْ أيّاكْ
عاگبْ ذاكْ امّلِّ تِظياگْ
النص كما بدا لي :
فالنص اذا حركنا (أگبيل ) من التافلويت الأولى ، والذي أغلق تصدرها الكلام ،حركية الزمن في النص ، حتى لم يعد ما بعدها بلاغيا يستوعب ليلتين ، ونؤخرها لنصف بها لَمْگِيلْ2 الثاني ،ونتجنب بذلك تمطيط معنى (أگبيل ) ليشمل ليلة ونهارين ، ولا نزد النص بأي لفظة من خارجه بغرض التمكين لهذا المعنى الذي أردنا ،وما نعتقد أنه الأصل في مراد الشاعر ، لا نزد غير لفظة وحيدة هي “فات” .
“فات” من أين جئنا بها :
“فات” لفظة استخدمها الشاعر في هذا النص وفي الجملة الموالية مباشرة لجملة (لمگبيل ) ، وهذه الجملة هي : (ؤفات ٱفْذِ الحيلْ الليل ) و تأتي في اطار سرده لرحلته الشعرية وكذلك فعلنا ، و “فات” هنا قد تفيد العطف، فنقول : كما فات( لَمْگِيل1 الأول) فات ليله الأوحد كذلك ،فهي أداة لتبعيض الوحدة الزمنية الواحدة ،و(اتفتويتها) ،ومن الوارد جدا في البيئة الاجتماعية للشعر الحساني – والذي لم يدون الا مؤخرا – أن يحدث لبس يُبدل كلمة بأخرى، فيُعجل بقوله (أگبيل ) في الطلعه و يؤخر (امْگِيل) ،خصوصا أن هذا الابدال لم يُثر عيبا في الشكل ،فالعيب في الشكل ظل أخطر عند الرواة وأقل في الروايات العالمة للشعر الحساني ،ويكاد تخلو منه دواوين الشعراء الشهيرين كشاعرنا “ولد آدب “،ومن عيوب الشكل في النص الشعري :ايطه ، لحراش ،الزي ،الظلاع …. الى آخره ، وانما أصابت هذه الرواية الجوهر من النص ،أصابت المعنى ، ولا نقول هنا بمركزية الشكل على حساب المعنى في الثقافة الحسانية، أو استسهال الخلل في المعنى في النص عندهم ،بقدرما ننبه على امكانية حدوث الأمر من راوية متمكن مأمون .
ويساعد ثُبوت صحة هذه الرواية الوحيدة للنص عند المهتمين بالثقافة الحسانية ، حتى ولت أصلا له ،عُلو مقام صاحب النص الشاعر الكبير ولي الله محمد ولد الشيخ أحمد ولد آدب ، فمقام محمد ولد آدب العرفاني وما حباه الله من قبول ودراية مشهودة في مجالات معرفية متعددة ،وشعرية متعددة ،ساهمت كل هذه الصفات المكونة لمقامه العالي بالله ، ساهمت في تقبلنا السريع لعجزنا عن فهم سليم لانتاجه الشعري وكأن الولاية – التي أثبتها لمحمد ولد آدب معاصريه العدول – وهي شيئ فوق طور العقل ، كذلك لا ينتج عن صاحبها الا ماهو فوق طور العقل أيضا .
في حين لو تصورنا كيف وصلتنا الطلعه و أمعنا النظر في الرواية والراوي ،قبل أن نصل للشاعر نفسه ،أوأتهمنا أنفسنا ،ومصادرالطلعه ،قبل أن نُثبت سلامة رواية الطلعه،وقبل أن نُضيفها للشاعر الفحل ولد آدب ، لمن الوارد جدا – كما سبق وقلنا – أن يكون الراوي أورد (أگبيل ) قبل محلها من النص وسبب ذلك هذا التشويش ، فالبيئة الاجتماعية للشعر الحساني – على علمها – لم يدون فيها الشعر الحساني الا مؤخرا – ومن الوارد كذلك أن يكون ذلك الورود أحدث لبسا، أبدل كلمة بأخرى، فعجل بقوله (أگبيل ) في الطلعه و أخر (امْگِيل).
اوتذكرنا أن الشعرالحساني شعر سماعي بالدرجة الأولى ،بمعنى أنه شعر مُغنى ،ولعله أصل تسميته “لغن” ، وطبيعي أن الطلعه ظلت لعقود كثيرة تُتداول بهذه الرواية ، لكون الراوي بالأساس قبل وجود الدواوين المكتوبة كان يُغنى بها ،و لم تصلنا مُدونة ،مكتوبة ،بل سماعيا ،،شدوا من شاد ،ولم يتثبت أكثرنا من الشادي عن ما سمع يشدو به ، ولا الشادي نفسه شرط في تلقينه شواهد الموسيقى التثبت من ألفاظ شاهده من مكونه في هذا الفن ،و من هنا جاز أن يحصل اللبس ومنا نحن لا من الشاعر الكبير والولي الشهير محمد ولد الشيخ احمد ولد آدب.
وقبل أن يبدأ التدوين الشعري ،ظل الأمر متقبلا بعض الشيئ ،و اليوم وقد كثرت الأسئلة حولها ، وذلك لأهميتها وأهمية صاحبها في قائمة شعراء الحسانية ، وجب إعادة التأمل فيها وهذا جهدي.
أنظرفي النص الآن مرة أخرى،كيف أنسجم زمنيا وكيف استعاد لياقته المنطقية .
1-2 : عدد مرات ذكر النص ل ٱمْگِيلْ