
كتب محمد أقلمبيت
في سابقة من نوعها في تاريخ سياسة توظيف الموارد البشرية بموريتانيا، يصدر تعميما وزاريا يحمل نقدًا ذاتيًا صريحًا لعقود من السياسات الفوضوية والعشوائية في اكتتاب الموارد البشرية بالإدارة العمومية الموريتانية.
ولست في معرض التوقف عند منعرجٍ أسود “تسبب في إقصاء الكثير من المواطنين المؤهلين، وخلق عبئًا ثقيلًا على ميزانية الدولة وعلى التوازنات المالية لمؤسساتها العمومية” – على حد تعبير التعميم، وهو واقع بات معلومًا لدى الجميع – وإنما سأنصرف في هذا التعليق السريع إلى أبعاد المبادئ التي ألزم التعميم الوزاري المؤسسات المعنية بالانسجام معها.
وهي أبعاد، وإن بدت ظاهريًا بسيطة، فإنها في الجوهر تتسم بالكثير من الدقة والتعقيد.
فسياسة التوظيف تتنازعها ثلاث زوايا رئيسية:
• هل نتحدث عن التوظيف كآلية تدبيرية لتطوير عمل الإدارة؟
• أم عن التوظيف من الناحية المعيارية والمسطرية؟
• أم عن التوظيف كبُعدٍ من أبعاد السياسات العمومية؟
وهي زوايا حاول التعميم الوزاري تضمينها في مبادئ تأرز إلى منطق تدبيري وقانوني سليم.
وبغض النظر عن التوهج الإعلامي الذي حظي به هذا التعميم، فإنه حمل دلالات موضوعية ترسم معالم سياسة توظيف جديدة، تحتكم إلى النظم والنصوص المعمول بها، وتستند إلى مرجعيات تقوم على آليات الجودة، والشفافية، وتكافؤ الفرص، وتستجيب لمنطق الحاجة الواضحة.
فسياسة توظيف الموارد البشرية لا تبدأ من إعلان المسابقات، وإنما من التدبير التوقعي (gestion prévisionnelle)، ومن مؤشرات الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات، الذي يتيح للمؤسسات العمومية تحديد احتياجاتها وتحقيق تمايزها. ومن هنا تأتي المباريات أو المسابقات كحلٍّ نهائي.
إلا أن أثر هذه التوجهات الإيجابية سيظل ضعيفًا ما لم يُراعَ فيه خصوصية السياسة الترابية وتحقيق العدالة المجالية، في ظل التدبير المركزي للتوظيف، ما عدا بعض الاستثناءات المحدودة والمنحصرة في قطاعي الصحة والتعليم.
مما يحجر على الجماعات الترابية والمصالح اللاممركزة في الداخل الموريتاني في تلبية حاجياتها، ومراعاة خصوصياتها في تدبير مواردها البشرية، التي من شأنها مواجهة التحديات الناتجة عن تحول وظائف الدولة في المجالات التقنية، والرقمية، والاقتصادية، والبيئية…
فأي سياسة لا تنطلق من هذا التمايز، هي سياسة قاصمة. “فمتطلبات الإدارة والمرتفقين في مدينة نواذيبو ليست هي نفسها في باسكنو”.
ومن جهة أخرى، فإن عملية تطوير المسار المهني لهذه الموارد المكتتبة داخل الإدارات والمؤسسات العمومية يجب أن يرتبط بآليات التكوين والتأهيل المستمر، وأن تعتمد ترقيتها في السلم الإداري على منطق الكفاءة والمردودية، لا على منطق الأقدمية فقط.
وإلى ذلك الحين، يجب أن تمنحنا تعيينات مجلس الوزراء في “يومهم الممتاز” جرعة أملٍ، ترسم للمؤسسات العمومية طريقًا يبسًا في الانسجام مع هذه المعايير والمبادئ التدبيرية الجيدة، وتشكل قطيعة مع أنماط التدبير التقليدية، والتي اتسم أغلبها – هو الآخر – “بالمحاباة والزبونية، وتغييب مبادئ الجودة والكفاءة، حتى صارت أقصر الدروب إلى التوظيف”.
فالرقابة الذاتية هي أول خطوة جادة نحو الإصلاح.
محمد أقلمبيت ،باحث في التدبير الاداري والمالي.