
خاص – قبس – نواكشوط.
حين يُفتح باب الحوار السياسي في بلد يعج بالتناقضات، فالأمر ليس مجرد لقاءات مجاملة أو بروتوكولات دبلوماسية، بل هو رهان بين القوى السياسية على رسم ملامح المرحلة القادمة، وفقًا لحسابات معقدة تتداخل فيها المصالح والرؤى.
المشهد السياسي في موريتانيا اليوم يبدو كمائدة مستديرة، الكل يجلس حولها لكن ليس بالضرورة للاتفاق، بل لترتيب أوراقه وتحقيق مكاسب تكتيكية قد تسبق توافقًا حقيقيًا.
رئيس يبحث عن التهدئة ومعارضة تُعيد حساباتها
في الأسابيع الأخيرة، كثّف الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لقاءاته مع أطراف المشهد السياسي، واضعًا الحوار على الطاولة كخيار استراتيجي لا يمكن تأجيله أكثر، خاصة بعد الجدل الذي أثير حول جدوى الحوار في ظل موازين القوى الحالية.

اللقاء الذي جمعه مع المرشح السابق رئيس “ائتلاف قوى الشعب” ذ/ العيد محمدن امبارك، كان جزءًا من هذه الديناميكية الجديدة، حيث طُرحت ملفات كبرى، أبرزها الحوار المرتقب والهجرة، في توازن دقيق بين الالتزامات الداخلية والعلاقات الإقليمية.
لكن هذا المسار لا يبدو مقنعًا للجميع. فبيرام ولد الداه اعبيد، أحد أبرز وجوه المعارضة، خرج من لقائه مع الرئيس برسالة مزدوجة: “كسر الجليد” مع ولد الغزواني، لكنه لم يستعد صداقته.

في مقابلة مع “صحراء 24”، لم يخفِ بيرام عدم تفاؤله بالحوار، معتبرًا أن الظروف لم تنضج بعد للوصول إلى نتائجه المرجوة.
هذا الموقف يكشف معضلة أعمق: المعارضة لم تحسم بعد موقفها الموحد من الحوار، فبينما يتوجس البعض منه باعتباره مجرد “تمرير لأجندة النظام”، يرى آخرون أنه فرصة لا يمكن تفويتها لإعادة ترتيب المشهد السياسي.
بين الشك والرهان: المعارضة تسعى إلى موقف موحد
حزب “تواصل”، المحسوب على التيار الإسلامي، يبدو أكثر انفتاحًا على فكرة الحوار، إذ كثّف زعيمه حمادي ولد سيدي مختار مؤخرا لقاءاته مع رموز المعارضة مثل بيرام ولد الداه ومحمد ولد مولود، في محاولة للوصول إلى موقف موحد بشأن الحوار المرتقب. لكن المعارضة ليست “كتلة صلبة”، فالتباينات داخلها ليست فقط بين من يريد الحوار ومن يرفضه، بل تتعلق أيضًا بأولويات النقاش ذاته: هل يجب التركيز على القوانين المنظمة للعمل السياسي، أم على ملفات أكثر حساسية مثل توزيع السلطة والنظام الانتخابي؟

موسى فال: رجل التوافق في مهمة صعبة
في خطوة لافتة، كلف الرئيس غزواني السياسي موسى فال بتنسيق الحوار، وهو اختيار له دلالاته. فالرجل معروف بكونه شخصية توافقية، لم تنتمِ إلى المعارضة الراديكالية، لكنها لم تكن أيضًا جزءًا من السلطة التقليدية. هذا التعيين يوحي بأن الرئاسة تحاول منح الحوار طابعًا أكثر استقلالية، بعيدًا عن الاصطفافات السياسية الحادة.
لكن السؤال الحقيقي ليس حول هوية من يقود الحوار، بل حول ما إذا كان الحوار نفسه سيكون مجديًا. فالتجارب السابقة في البلاد، كما في أماكن أخرى، أثبتت أن الحوارات السياسية لا تنجح فقط بوجود النوايا الحسنة، بل تحتاج إلى التزام واضح بتطبيق مخرجاتها.

رهان على التوافق أم تكرار لدوامة الخلاف؟
يرى الباحث السياسي محمد المختار أحمد سالم، في تصريح لـ”قبس الإخباري”، أن اللقاءات التي يجريها الرئيس غزواني مع قادة المعارضة تهدف بالأساس إلى إعادة بناء الثقة بين أطراف المشهد السياسي، بعد فترة طويلة من القطيعة.
لكنه يوضح أن المعارضة “لا تحبذ تسمية ضوابط الحوار كشروط، لكنها تحاول إيجاد ورقة موحدة تقدمها، وهو أمر لم تحققه حتى الآن، لأن أجندتها مختلفة ومتباينة”.
ويضيف الباحث أن الخلاف داخل المعارضة لا يقتصر على مسألة القبول بالحوار من عدمه، بل يمتد إلى تحديد الأولويات داخله، مشيرًا إلى أنه “هناك طرف معارض يرى أن ملف التعيينات في مؤسسات الدولة هو الأهم، بينما يرى طرف آخر أن القضية الأكثر أهمية هي إعادة النظر في النظام الانتخابي”.
أما عن مخرجات الحوار المحتملة، فيرى أحمد سالم أن نتائجه “لا يمكن استباقها، لأنها ستعتمد على الأجندة التي ستُطرح خلال النقاش”، لكنه يعتقد أنه “إذا جرى الحوار بالفعل، فمن المرجح أن يقود إلى انتهاج حكامة سياسية واقتصادية جديدة، مع تغييرات مهمة في القوانين، خصوصًا تلك الناظمة للعمل السياسي، مثل إعادة النظر في النظام الانتخابي وتوسيع التمثيل النسبي”.

ويحذر الباحث من أن الإشكالية الكبرى التي قد تواجه هذا الحوار تكمن في تطبيق مخرجاته، موضحًا أن “السلطة ستقول إنها طبّقت الاتفاقات، بينما ستتهمها المعارضة بعدم الوفاء بالتزاماتها، مما سيعيد إنتاج الدوامة نفسها التي شهدتها البلاد في تجارب سابقة”.
حوار أم محطة جديدة في لعبة التوازنات؟
المشهد السياسي في البلاد يقف على مفترق طرق: بين سلطة تسعى إلى تطويق الاحتقان من خلال الحوار، ومعارضة تدرك أن الدخول إلى طاولة التفاوض ليس دائمًا خيارًا بلا كلفة. ما لم تُحسم النقاط الجوهرية التي يطرحها هذا الحوار، وما لم تُترجم التوافقات إلى التزامات ملموسة، فقد يتحول الحوار إلى مجرد محطة أخرى في مسلسل التوازنات السياسية، حيث يبقى الوضع على حاله رغم كل الجلبة التي تحيط به.
في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل سيكون هذا الحوار خطوة نحو استقرار سياسي حقيقي، أم مجرد جولة جديدة في لعبة شد الحبل بين السلطة والمعارضة؟