رغم شيوع الاعتقاد باعتباطية الدال التي تتبناها النظرية البنوية في اللغة، فإن كل القراءات النقدية – بما هي تأويل – تقوم على استنطاق الدوال، باعتبار أن ” لكل شيء حظا من اسمه”، كما يقال.
ومن هنا أعتقد أن استعراض هذه المصطلحات ، دون محاولةٍ لتأويلها بما يخدم السياق الإيقاعي للشعر الحساني- مَرْكز اهتمام المقاربة في هذا الكتاب – يعتبر تقصيرا، ينبغي لهذا الباحث وغيره من دارسي الشعر الحساني، أن يتلافوه في مستقبل أعمالهم.
وبما أن شروط البحث العلمي لا تتوفر لي في هذا المقام، وبما أن هذا الموضوع ما يزال بكِرْاً، لم تطمثْه – حسب علمي – أقلام ُالبَحَثَة. فإني أكتفى هنا بإشارات عابرة توحي لمن سيأتي من الباحثين بأن ” في الإمكان أبدع مما كان”.
وهكذا يمكن أنْ نسْتشِفَّ – ولو رجْمًا بالغيب – أنَّ مصطلحات هذه الأوزان تعتمد الوصف بالتهويل والتهوين خلفيةً في نحت العناوين، ولعل أصداء هذه الثنائية المتحكمة – حسب نظري- في هذا السياق، واجدة مصداقها،في ثنائية “الكدْعة” و” السرْمة” المتحكمة- هي الأخرى – في وصف الأوزان، حيث تدل “الكدْعة” -في العربية- على القمع والمنع ،وفي الأثر: “هو الفحلُ لا يُقْدَعُ أنْفُه” ،و” السرْمة” -في الحسانية- تدل على الاسترسال والحرية، والمعي المسروم -في اللغة العربية- “الممطط”.
وغير بعيد من هذا المَنْحى نجد “بت أمْريميده” – في حقله الدلالي الحساني والفصيح – يوحي بإجْهاد متعاطيه ، وجرْجرته – في الرماد – عبر مدارج هذا البحر المستعصية، كما أن “التيدوم” شجر طويل صعب المرام:
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُهْ زلت به إلى الحضيض قدمُهْ
و” لبَّيْر”ـ ما هو إلا تصغيرُ بئْر بعيد القعْر على وارديه، يتربَّصُ الخطرُ بمن أُلْقِيَ في غياباته ، لأنَّ التصغيرَ يوحي – أحيانا – بالتعظيم، خلاف منطوقه.لا سيما في البئر المهول.
أضف إلى ذلك أن تسمية “الطلعة” يستشف منها أنها عقبة إبداعية كأداء تنهض صعدا، من “القاف”، بين يديْ الشاعر ، فتُرْهقُه من – شِعْره – عُسْرًا، ما لم يكنْ مُكتملَ أدوات الإبداع، موهبة وخبرة.
كما أنَّ “القاف” نفسه -إذا صرف عن اشتقاقه من “القافية”- ربما يدلُّ
على جَبَل “قاف”، بحيث يندرج في سياق التهويل الاصطلاحي
وإذا كان “البت الكبير” و” البتيت التام ” لا يخرجان أيضا- عن هذا التهويل الباصم لهذه التسميات ، ففي المقابل نجد الاستسهال والتهوين يختبئان خلف عناوين “السغير”، و” لبتيت الناقص”، و” احويوص” ،و”حثو الجراد”،مع أن الاسم الأخير له حمولة موسيقية يكتنزها تشبيه إيقاع هذا البحر، بإيقاع حثو الجراد بأجنحته وأرجله الواهنة، وفي ذلك علاقة لنسب عريق مع التسميات العربية الواصفة- مثلا – للمتدارك، حيث سميت إيقاعاته بـ “الخَبَب”، و”قطْر الميزاب”،تشبيها للإيقاعين هنا وهناك.
وعلى مقربة من ذلك تتنزل تسمياتهم لعيوب الإيقاع على مستوى الوزن والقافية، حيث يسمون أبسط نشاز في الروي بـ” الزي” ،حسب القيم الصوتية للحرف ترقيقا وتفخيما، كما يسمون نشازات الوزن بـ” التعكلي” و “التعكريز “…وكلها أوصاف تشي بنيتها الصوتية بالحساسية الموسيقية المرهفة، النفورة من جميع النشازات مهما كانت خفيفة.
وأظن أن المضي قدما في هذه التداعيات قد يثري المقاربة النقدية لإيقاع هذا الشعر بتأويلات، إلا تكنْ مُقْنِعَةً، أو مؤسسة علميا، فإنها تملأ فراغاتٍ أخلَّ بها رواةُ هذا الموروث الشفوي ،غير المثقفين بما فيه الكفاية، ولم ينتبه لها حتى دارسوه المثقفون، فمابالك بالمتثاقفين؟!
(فقرة من تقديمي لكتاب الأستاذ سعيد كويس،حول البنية الإيقاعية للشعر الحساني2011…
نشر التقديم اخيرا فصلا من كتاب الشعر الحساني والشعر العربي:وصل الفصل.. نسب الأدب
ص:121-123
78